هل يمكن أن تتحول مدخراتك النقدية التي جمعتها بشق الأنفس وخبأتها في بيتك إلى مصدر قلق قانوني؟ في ظل التغييرات التشريعية الأخيرة في المغرب، أثير جدل واسع حول ما يسمى بـ “التسوية الطوعية” للأموال غير المصرح بها. في مقطع فيديو حديث، قدم خبير قانوني شرحًا مفصلًا حول هذا الإجراء، موضحًا من هم الأشخاص المعنيون به، ومن هم المستثنون، وما هي العواقب المحتملة لعدم الامتثال. هذا المقال يقدم تحليلاً شاملاً لوجهة نظره، مدعومًا بأبحاث إضافية وسياق دولي، لفهم أعمق لهذا التدبير المالي الهام.
المبدأ الأساسي للضريبة: لا دخل بدون مقابل مالي للدولة
في مستهل حديثه، أكد الخبير على قاعدة جوهرية في النظام المالي: كل دخل يتم تحصيله، سواء من قبل شخص طبيعي (فرد) أو اعتباري (شركة)، يخضع للضريبه. تختلف أنواع الضرائب وأسماؤها، فهناك الضريبة على الدخل (IGR - Impôt Général sur le Revenu) التي تطبق على أجور الموظفين وأرباح المهنيين، والضريبة على الشركات (IS - Impôt sur les Sociétés) التي تفرض على أرباح الشركات، والضريبة على القيمة المضافة (TVA - Taxe sur la Valeur Ajoutée) التي يدفعها المستهلك النهائي على السلع والخدمات. المبدأ واضح: أي مبلغ مالي يدخل ذمتك المالية يجب أن تؤدي عنه ضريبة للدولة.
هذا المبدأ ليس حكرًا على المغرب، بل هو أساس النظم المالية الحديثة حول العالم. تهدف الضرائب إلى تمويل نفقات الدولة الحيوية مثل البنية التحتية، والتعليم، والصحة، والأمن. ويؤكد خبراء الاقتصاد، مثل الخبير الاقتصادي المغربي نجيب أقصبي، أن العدالة الضريبية تقتضي أن يساهم الجميع حسب قدرتهم في هذه النفقات العامة.
من هم الأشخاص غير المعنيين بالتسوية الطوعية؟
يطرح السؤال الأهم: هل كل من يملك أموالاً نقدية في منزله مستهدف بهذا القانون؟ يجيب الخبير بالنفي، موضحًا عدة فئات لا يشملها هذا الإجراء لأن أموالها قد خضعت للضريبة مسبقًا عند المصدر. هذه الأموال تعتبر “صافية” ومالكها حر في التصرف فيها كيفما يشاء، سواء بإنفاقها، أو إيداعها في البنك، أو الاحتفاظ بها في المنزل.
1. الموظفون والأجراء: ضرب المتحدث مثالًا بموظف يتقاضى راتبًا شهريًا قدره 7000 درهم. هذا الراتب، قبل أن يصل إلى حساب الموظف، تكون الشركة أو الإدارة العمومية قد اقتطعت منه الضريبة على الدخل عند المنبع. المبلغ المتبقي (الراتب الصافي) هو ملك خالص للموظف. إذا ادخر هذا الموظف جزءًا من راتبه على مدى سنوات وجمع مبلغًا معينًا، فلا يمكن مطالبته بدفع ضريبة مرة أخرى على هذه المدخرات، لأنها ببساطة نتاج أموال تم بالفعل تصفية وضعيتها الضريبية.
2. الأموال المتأتية من الإرث: في النظام القانوني المغربي، الأموال والممتلكات التي تنتقل عن طريق الإرث معفاة من الضرائب. فإذا ورث شخص مبلغًا ماليًا، فإنه غير ملزم بدفع أي ضريبة عليه، وبالتالي يمكنه الاحتفاظ به أو إيداعه دون أي مساءلة ضريبية.
3. التحويلات المالية من أفراد العائلة بالخارج: الكثير من الأسر المغربية تعتمد على التحويلات المالية من أبنائها أو أقاربها العاملين في الخارج. أوضح الخبير أن هذه الأموال لا تخضع للضريبة في المغرب. فإذا كان شخص يتلقى مبلغًا شهريًا من ابنه في أوروبا، وقام بتجميع هذه المبالغ على مدى سنوات، فإنه غير معني بالتسوية الطوعية. السبب هو أن هذه الأموال غالبًا ما تكون جزءًا من دخل تم فرض الضريبة عليه بالفعل في بلد المصدر.
4. أرباح الأسهم الموزعة (Dividendes): عندما تحقق شركة ما أرباحًا وتقرر توزيع جزء منها على المساهمين، فإن هذه الأرباح الموزعة تخضع لضريبة خاصة قبل أن تصل إلى المساهم. المبلغ الصافي الذي يتلقاه المساهم يكون قد تمت تسويته ضريبيًا، وله كامل الحرية في التصرف فيه.
5. التعويضات عن الفصل من العمل: في حالة حصول موظف على تعويض مالي كبير نتيجة فصل تعسفي، فإن هذا المبلغ يخضع للضريبة على الدخل وفقًا لشرائح محددة. بعد دفع الضريبة المستحقة، يصبح المبلغ المتبقي ملكًا للشخص، ولا يمكن إعادة فرض الضريبة عليه.
من هم المستهدفون الحقيقيون من هذا الإجراء؟
إذًا، من الذي يجب أن يقلق؟ يوضح الخبير أن المعنيين مباشرة هم الأشخاص الذين حققوا مداخيل من أنشطة مختلفة ولم يصرحوا بها لإدارة الضرائب، وبالتالي لم يدفعوا الضريبة المستحقة عليها. وتشمل هذه الفئة:
- التجار وأصحاب المهن الحرة: الذين لا يصرحون بكامل رقم معاملاتهم أو مداخيلهم الحقيقية.
- أصحاب العقارات: الذين يؤجرون عقاراتهم دون التصريح بعائدات الإيجار، خاصة إذا تجاوزت هذه العائدات السقف المعفى من الضريبة (الذي كان محددًا في السابق في 40,000 درهم سنويًا، وقد تتغير هذه العتبة وفقًا لقوانين المالية السنوية).
- أي شخص حصل على أموال من أنشطة اقتصادية غير مهيكلة (اقتصاد الظل) واحتفظ بها نقدًا.
هذه الأموال “غير المصرح بها” هي التي تسعى الدولة إلى إعادتها إلى الدائرة الاقتصادية الرسمية عبر إجراء التسوية الطوعية.
آلية “التسوية الطوعية” وسيف “من أين لك هذا؟”
شرح المتحدث أن الدولة تقدم عرضًا مغريًا لهؤلاء الأشخاص: بدلًا من دفع معدلات ضريبية مرتفعة قد تصل إلى 37% أو أكثر، مع غرامات وعقوبات، يمكنهم تسوية وضعيتهم بدفع مساهمة إبرائية (Contribution Libératoire) بنسبة 5% فقط من المبلغ الإجمالي المصرح به.
كيف تعمل الآلية؟
- يتوجه الشخص إلى مؤسسة بنكية معتمدة.
- يملأ مطبوعًا خاصًا يصرح فيه بالمبلغ النقدي الذي يحتفظ به في منزله (مثلًا: 3 ملايين درهم).
- يؤدي نسبة 5% من هذا المبلغ (في مثالنا: 150,000 درهم).
- بمجرد الدفع، يصبح المبلغ المتبقي (2.85 مليون درهم) قانونيًا ومُبيّضًا، ولا يمكن لإدارة الضرائب مساءلته عنه مستقبلًا.
نقطة هامة: أكد الخبير أن القانون لا يلزم الشخص بإيداع أمواله في البنك بعد تسويتها. يمكنه استلام وصل الدفع والاحتفاظ بأمواله في منزله إذا شاء.
ولكن، ما الذي يدفع شخصًا للاستفادة من هذا الإجراء؟ الجواب يكمن في مبدأ “من أين لك هذا؟”. قد يظن البعض أن أموالهم النقدية في مأمن طالما بقيت مخبأة في المنزل. لكن المشكلة تظهر عند محاولة استخدام هذه الأموال في معاملات كبيرة ومسجلة رسميًا:
- شراء سيارة فاخرة: يتم تسجيل السيارة باسم المشتري في مصلحة تسجيل السيارات، مما يثير انتباه إدارة الضرائب.
- شراء عقار: يتم تسجيل عقد البيع في المحافظة العقارية، ويظهر اسم المالك الجديد.
عندما ترصد إدارة الضرائب عملية شراء كبيرة لا تتناسب مع المداخيل المصرح بها للشخص، فإنها تفتح تحقيقًا وتطالبه بتبرير مصدر الأموال. هنا، يصبح الشخص أمام خيارين:
- إذا كان قد قام بالتسوية الطوعية: يقدم وصل الدفع الذي يثبت أن الأموال قانونية، وينتهي الأمر.
- إذا لم يقم بالتسوية: سيتم إخضاع المبلغ لنسبة الضريبة العادية (مثلًا 37%) بالإضافة إلى غرامات التأخير، مما يجعل التكلفة باهظة جدًا مقارنة بنسبة 5% التشجيعية.
قاعدة السنوات الأربع: التقادم الضريبي
أحد أهم النقاط التي ركز عليها الخبير لطمأنة الجمهور هي قاعدة التقادم الرباعي. في القانون الضريبي المغربي، لا يمكن لإدارة الضرائب أن تراجع وضعية المواطن لأكثر من السنوات الأربع الأخيرة. أي مداخيل تم تحقيقها قبل هذه المدة تعتبر “سقطت بالتقادم”، ولا يمكن للإدارة المطالبة بالضريبة عليها.
هذا يعني أن الشخص الذي جمع مدخراته على مدى 20 أو 30 عامًا من مصادر مشروعة وخاضعة للضريبة، أو حتى من مصادر غير مصرح بها ولكنها قديمة جدًا، لا يجب أن يقلق بشأن المبالغ التي جمعها قبل فترة الأربع سنوات الأخيرة. المساءلة تتركز بشكل أساسي على المداخيل غير المصرح بها خلال السنوات الأربع التي لم يسقط حق الدولة فيها بعد.
السياق الدولي والمحلي: لماذا الآن؟
إجراءات التسوية الطوعية أو العفو الضريبي ليست اختراعًا مغربيًا. تبنت العديد من الدول برامج مماثلة لتحقيق أهداف متعددة.
- على الصعيد الدولي: لجأت دول مثل إيطاليا، الهند، والولايات المتحدة إلى برامج عفو ضريبي لدمج الأموال من الاقتصاد الموازي (Black Economy) في الاقتصاد الرسمي، وزيادة الإيرادات الضريبية، وتعزيز الشفافية المالية. تشير دراسات صندوق النقد الدولي (IMF) إلى أن نجاح هذه البرامج يعتمد على تصميمها الدقيق ومصداقية النظام الضريبي بعدها.
- على الصعيد المحلي: أشار المتحدث إلى أن الدولة المغربية في حاجة إلى سيولة مالية لتمويل صناديقها، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية مثل سنوات الجفاف المتتالية. يرى خبراء أن هذه الإجراءات تمثل وسيلة “قانونية” لزيادة المداخيل دون رفع معدلات الضرائب الحالية. وقد تم تضمين إجراءات مماثلة في قوانين المالية السابقة، مثل قانون المالية لسنة 2020 الذي أتاح تسوية وضعية الممتلكات والأموال الموجودة في الخارج.
هل تملك الدولة آليات المراقبة؟
أثار المتحدث سؤالًا جوهريًا: هل لدى الدولة القدرة الفعلية على مراقبة الجميع؟ الجواب هو نعم، وبشكل متزايد.
- تقاطع البيانات (Data Cross-referencing): تمتلك إدارة الضرائب القدرة على مقاطعة البيانات من مصادر مختلفة: المحافظة العقارية، مصالح تسجيل السيارات، الجمارك، والبنوك.
- تحليل نمط العيش: يمكن للسلطات الضريبية أن تشك في وضعية شخص ما إذا كان نمط حياته (سيارات، رحلات، ممتلكات) لا يتناسب إطلاقًا مع دخله المصرح به. المثال الذي قدمه الخبير عن الزوجين اللذين يسحبان راتبهما بالكامل نقدًا (35,000 درهم) يوضح هذا المنطق: ستسأل الإدارة حتمًا “كيف كنتم تعيشون وتغطون مصاريفكم اليومية؟”، مما يشير إلى وجود مصدر دخل آخر غير مصرح به.
وأكد الخبير أن المراقبة ستبدأ على الأرجح بالمبالغ الكبيرة والمعاملات الضخمة، قبل أن تتوسع لتشمل شرائح أصغر.
خلاصة وتوصيات
يقدم تحليل الخبير صورة واضحة: إجراء التسوية الطوعية هو فرصة لأصحاب الأموال غير المصرح بها لتسوية وضعيتهم بتكلفة منخفضة، وفي نفس الوقت هو تحذير بأن الدولة أصبحت أكثر جدية في تتبع مصادر الأموال ومكافحة التهرب الضريبي.
النقاط الرئيسية التي يجب تذكرها:
- الأموال الخاضعة للضريبة سابقًا (رواتب، إرث، تحويلات عائلية) آمنة تمامًا.
- المستهدفون هم أصحاب المداخيل غير المصرح بها من أنشطة اقتصادية.
- قاعدة التقادم تحصر المراجعة في السنوات الأربع الأخيرة فقط.
- التسوية الطوعية بنسبة 5% هي خيار أفضل بكثير من مواجهة ضرائب عقابية تصل إلى 37% أو أكثر.
- آليات المراقبة أصبحت أكثر تطورًا، والاعتماد على إخفاء النقد لم يعد استراتيجية آمنة على المدى الطويل.
في النهاية، يبدو أن الرسالة الموجهة من المشرّع واضحة: عصر التسامح مع الأموال غير المصرح بها يقترب من نهايته، والشفافية المالية هي المسار الذي تتجه إليه الدولة.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تعليمية وتثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة ضريبية أو قانونية. للحصول على مشورة متخصصة، يرجى استشارة محامٍ أو خبير ضرائب معتمد.