ماذا لو كان بيننا أفراد يمتلكون قدرة فطرية على كشف ما هو مخفي تحت أقدامنا؟ ليسوا أبطالاً خارقين في قصص مصورة، بل أناس عاديون يُعرفون في ثقافات مختلفة بأسماء مثل “الزهري” أو “الثاهوري”. في مقطع فيديو حديث على يوتيوب، تناول متحدث هذه الظاهرة الغامضة التي تمتد بجذورها من شمال إفريقيا إلى جنوب إسبانيا، بل وتصل أصداؤها حتى الأرجنتين. هذه الظاهرة، التي طالما ارتبطت في الموروث الشعبي بالكنوز والجن، تتخذ في أماكن أخرى وجهاً مختلفاً تماماً، وجهاً يثير تساؤلات عميقة حول حدود الإدراك البشري وعجز العلم أحياناً عن تفسير كل شيء.

من هو “الزاهوري” في الثقافة الإسبانية؟

في مقطع الفيديو، أوضح المتحدث أن مصطلح “الإنسان الزهري” له مقابل في الثقافة الإسبانية، وتحديداً في منطقة الأندلس وجنوب إسبانيا، حيث يُعرف باسم “Zahorí” (وتنطق “ثاهوري” باللهجة الإسبانية القشتالية). هذا المصطلح ليس مجرد كلمة عامية، بل هو معترف به في المعجم الرسمي للأكاديمية الملكية الإسبانية، الذي يعرفه بأنه “شخص لديه موهبة اكتشاف ما هو مخفي، وخصوصاً ينابيع المياه الجوفية”. وبشكل مجازي، يطلق المصطلح على الشخص الفطن ذي الذكاء الحاد والقدرة على ملاحظة أمور لا ينتبه إليها الآخرون.

على عكس الموروث الشعبي في شمال إفريقيا الذي يربط “الزهري” بالقدرة على كشف الكنوز المدفونة وعالم الجن، فإن “الزاهوري” الإسباني يرتبط بشكل شبه حصري بالبحث عن المياه الجوفية. يستخدم هؤلاء الأشخاص تقنية باطنية قديمة تُعرف بـ “Radiestesia” أو “العرافة بالعصا” (Dowsing). وأشار المتحدث إلى أن هذا المصطلح لاتيني الأصل، مركب من كلمتين: “Radius” (بمعنى شعاع أو ذبذبة) و”Aisthesis” (بمعنى إحساس أو إدراك). تعتمد هذه التقنية على استخدام أدوات بسيطة مثل أسياخ معدنية على شكل حرف (L)، أو غصن شجرة على شكل حرف (Y)، أو بندول. يعتقد ممارسوها أن هذه الأدوات تتحرك أو تتفاعل مع “التدفقات المغناطيسية” أو المجالات التي تصدرها المياه الجوفية تحت الأرض.

عند البحث عن أدلة علمية تدعم هذه التقنية، نجد أن المجتمع العلمي يصنفها بشكل قاطع ضمن “العلوم الزائفة” (Pseudoscience). أُجريت العديد من التجارب المزدوجة التعمية (double-blind studies) لاختبار قدرات خبراء العرافة بالعصا، وكانت النتائج مخيبة للآمال. على سبيل المثال، في دراسة شهيرة أجريت في مدينة كاسل الألمانية عام 1991، فشل المنقبون عن المياه في تحقيق نتائج تتجاوز المصادفة البحتة. وفي مراجعة علمية (Scientific Review) نشرها جيمس إنرايت عام 1995، خلص إلى أن حركة العصا أو البندول لا تنتج عن أي قوة خارجية غامضة، بل عن حركات عضلية لا إرادية من الشخص نفسه، وهي ظاهرة تُعرف بـ “التأثير الحركي الفكري” (Ideomotor effect). ومع ذلك، لا يزال بعض المزارعين في المناطق الريفية بإسبانيا، كما ذكر المتحدث، يستعينون بخدمات “الزاهوري” لتحديد أماكن حفر الآبار، وذلك لأسباب اقتصادية وثقافية، حيث يثقون في الخبرات المتوارثة والقصص المحلية.

البعد الروحي والطاقي للإنسان الزهري

بعيداً عن التفسيرات المادية، يحمل مصطلح “الزهري” بعداً صوفياً وروحانياً عميقاً. يربط البعض الكلمة بكوكب “الزهرة” (Venus)، كوكب الجمال والحب والحدس والانسجام مع الطبيعة. من هذا المنظور، يُعتبر الإنسان الزهري شخصاً “مختاراً” يمتلك طاقة روحانية عالية وهالة (Aura) قوية ومؤثرة. قد تكون لديه علامات جسدية مميزة، ولكن الأهم هو “البصمة الطاقية” الفريدة التي يحملها.

أشار المتحدث إلى أن هذه الطاقة المميزة قد تجعل الشخص الزهري، إذا لم يكن واعياً بها، عرضة للاستغلال من قبل الآخرين الذين يشعرون بهذه الطاقة ويستمدون منها، أو حتى من قبل السحرة والمشعوذين الذين يسعون لاستخدام هذه القدرات في طقوسهم. أما الشخص الواعي بـ”زهريته”، فغالباً ما يخفي أمره ويعمل على تحصين طاقته وحمايتها من الاستنزاف.

هذه الفكرة عن وجود بصمة طاقية فريدة ليست حكراً على الثقافة العربية. ففي الطب الصيني التقليدي (Traditional Chinese Medicine)، يُنظر إلى طاقة “تشي” (Qi) على أنها قوة الحياة التي تتدفق عبر الجسم، ويُعتقد أن بعض الأفراد أكثر حساسية لتدفقها أو اختلالها. وبالمثل، في نظام الأيورفيدا الهندي (Ayurveda)، يُعتقد أن طاقة “برانا” (Prana) هي جوهر الحياة، وأن الأشخاص الذين يتمتعون بحدس عالٍ قد يكون لديهم اتصال أعمق بهذه الطاقة الكونية. يتفق خبراء في مجال الطاقة الحيوية مثل الدكتورة باربرا آن برينان، وهي فيزيائية سابقة في وكالة ناسا ومؤلفة كتاب “Hands of Light”، على أن لكل إنسان مجال طاقة فريد يمكن الشعور به والتأثير فيه.

عندما يقف العلم عاجزاً: الحدس والحاسة السادسة

تطرق المتحدث إلى نقطة محورية، وهي أن العلم، رغم تقدمه الهائل، لا يزال يقف عاجزاً أمام تفسير العديد من الظواهر المتعلقة بالوعي والإدراك البشري. ومن بين هذه الظواهر:

  1. الحدس البشري (Human Intuition): وهو تلك المعرفة المفاجئة أو الشعور بوجوب اتخاذ قرار معين دون وجود سبب منطقي واضح. يدرس العلم هذا المفهوم من منظور النشاط الدماغي اللاواعي، حيث يقوم الدماغ بمعالجة كم هائل من المعلومات والتجارب السابقة بسرعة فائقة ليقدم “شعوراً داخلياً” أو “Gut feeling”. دراسات علم الأعصاب (Neuroscience studies)، مثل تلك التي أجراها أنطونيو دماسيو، تشير إلى أن العواطف تلعب دوراً حاسماً في اتخاذ القرارات المنطقية، وهو ما يعرف بـ “فرضية العلامة الجسدية” (Somatic Marker Hypothesis). ومع ذلك، لا تزال الحالات الدقيقة للحدس الذي يتنبأ بأحداث مستقبلية غير متوقعة خارج نطاق التفسير العلمي الكامل.

  2. الحاسة السادسة (The Sixth Sense): وهي القدرة المزعومة على إدراك معلومات لا يتم تلقيها عبر الحواس الخمس المعروفة، مثل التخاطر أو الاستبصار. يُعرف هذا المجال بـ “علم التخاطر” أو “الباراسيكولوجيا” (Parapsychology). على الرغم من عقود من الأبحاث، مثل “تجربة جانزفيلد” (Ganzfeld experiment) المصممة لاختبار التخاطر، لم يتم التوصل إلى أدلة قاطعة ومُتفق عليها في المجتمع العلمي. يشير علماء مثل ريتشارد وايزمان إلى أن العديد من هذه التجارب تعاني من عيوب منهجية أو يمكن تفسيرها بعوامل نفسية. لذا، يبقى هذا المجال مثيراً للجدل، ويصنفه معظم العلماء ضمن العلوم الزائفة.

  3. تجارب الاقتراب من الموت (Near-Death Experiences - NDEs): وهي ظاهرة يروي فيها أشخاص مروا بموت سريري (clinical death) تجارب متشابهة، مثل رؤية نفق من الضوء، والشعور بسلام عميق، ومراجعة شريط حياتهم، أو لقاء كائنات نورانية. يقدم العلم تفسيرات عصبية لهذه الظواهر، مثل نقص الأكسجين في الدماغ (Hypoxia)، أو إفراز كميات كبيرة من الإندورفين، أو نشاط غير طبيعي في منطقة “الملتقى الصدغي الجداري” (Temporoparietal junction) بالدماغ، والتي ترتبط بتجارب الخروج من الجسد. لكن باحثين مثل الدكتور بروس غريسون من جامعة فيرجينيا، والدكتور سام بارنيا، يؤكدون أن هذه التفسيرات لا تجيب على جميع الأسئلة، خاصة فيما يتعلق بالوعي الصافي والذكريات المنظمة التي تحدث في وقت يكون فيه الدماغ غير نشط وظيفياً. دراسة (Human Study) واسعة النطاق تسمى AWARE، نُشرت في مجلة Resuscitation، حاولت التحقق من صحة هذه التجارب، ورغم أنها لم تصل لنتائج حاسمة، إلا أنها أكدت أن هذه التجارب حقيقية وتستدعي المزيد من البحث الجاد.

“الزوهري” في الأدب الأرجنتيني الحديث

لإثبات أن ظاهرة “الزهري” ليست مجرد خرافة من الماضي، بل لا تزال حية في الوعي الثقافي العالمي، أشار المتحدث إلى رواية صدرت حديثاً في عام 2025 للكاتب الأرجنتيني أورلاندو خافيير تشامورو. الرواية، التي يُقال إنها مستوحاة من قصة حقيقية، تحكي عن حياة رجل “زوهري” يُدعى لوسيو في منطقة ميسيونيس بشمال الأرجنتين، وهي منطقة معروفة بطبيعتها الخلابة وشلالاتها الساحرة.

تمزج الرواية بين تفاصيل الحياة اليومية والبعد الميتافيزيقي، حيث يواجه البطل قوى مظلمة، ويتواصل مع الأرواح، ويصبح شاهداً على عوالم أخرى. اللافت في الأمر هو أن الرواية تذكر أن مصطلح “الزهري” راسخ ويحظى باحترام كبير لدى الشعوب الأصلية في تلك المناطق، مما يؤكد أن هذه الفكرة ليست دخيلة بل متجذرة في ثقافات مختلفة حول العالم. في النهاية، يدعو الكاتب القارئ إلى “الخروج من الصندوق” والنظر إلى ما وراء الحدود الوهمية التي تفصل بين عالمنا المادي والمجهول.

في الختام، تأخذنا ظاهرة “الإنسان الزهري” في رحلة عبر الثقافات والجغرافيا، من أساطير الكنوز في المغرب إلى حقول الأندلس العطشى، وصولاً إلى غابات الأرجنتين المطيرة. وبينما يقدم العلم تفسيراته التي تحاول حصر كل شيء في إطار مادي قابل للقياس، تظل هذه القصص والمفاهيم تتردد في الوعي الإنساني، مذكرة إيانا بأن هناك جوانب في الوجود قد تتجاوز فهمنا الحالي، وأن الحدس والإدراك الروحي قد يكونان بوصلة أخرى لاستكشاف العالم من حولنا.


تنويه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تعليمية وتثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية.