ماذا لو كانت أعتى المشاكل التي تواجه البشرية، من تصميم أدوية فعالة لأمراض مستعصية إلى فهم أسرار الثقوب السوداء، على وشك أن تُحل؟ هذا هو الوعد الذي طالما حملته الحوسبة الكمومية، وهي تقنية بقيت لعقود حبيسة المختبرات النظرية. لكن يبدو أن هذا الوعد بدأ يتحقق. في إعلان قد يمثل نقطة تحول في تاريخ العلوم، كشف فريق الذكاء الاصطناعي الكمومي في جوجل (Google Quantum AI) عن أول عرض عملي لما أسموه “التفوق الكمومي القابل للتحقق”، وهو إنجاز لا يثبت فقط أن أجهزتهم الكمومية أصبحت أقوى من الحواسيب الفائقة التقليدية في مهام معينة، بل يفتح الباب أيضًا أمام تطبيقات عملية يمكن أن نراها في غضون سنوات قليلة.

في مقطع فيديو حديث، أوضح فريق من علماء جوجل، من بينهم فاديم سميلانسكي ونيكولاس روبين، تفاصيل هذا الإنجاز الذي تم تحقيقه باستخدام شريحة “ويلو” (Willow) الكمومية. لقد نجحوا في تشغيل خوارزمية معقدة أسرع بـ 13,000 مرة من أفضل خوارزمية كلاسيكية تعمل على أحد أسرع الحواسيب الفائقة في العالم. الأهم من ذلك، أن نتائج هذه التجربة “قابلة للتحقق”، مما يعني أنه يمكن لأي شخص يمتلك حاسوبًا كموميًا مناسبًا أن يعيد التجربة ويحصل على نفس النتيجة، وهو ما يمثل نقلة نوعية من مجرد إثبات علمي إلى أداة علمية حقيقية.

الأصداء الكمومية: خوارزمية تكشف أسرار الطبيعة

لفهم أهمية هذا الإنجاز، يجب أولاً فهم الخوارزمية التي استخدمها الفريق، والتي أطلقوا عليها اسم “الأصداء الكمومية” (Quantum Echos). شرح فاديم سميلانسكي، أحد الباحثين في الفريق، الفكرة باستخدام تشبيه بسيط ومألوف: تمامًا كما تستخدم الخفافيش تحديد الموقع بالصدى (echolocation) لرسم خريطة لكهف مظلم، أو كما تستخدم الغواصات السونار لكشف العقبات، فإن خوارزميتهم تولّد “صدى” داخل النظام الكمومي نفسه للكشف عن معلومات خفية حول كيفية عمله وتفاعلاته الداخلية.

من الناحية التقنية، تتضمن العملية سلسلة معقدة من الخطوات. أولاً، يقوم الباحثون بتطبيق سلسلة من العمليات الدقيقة، تُعرف بالبوابات الكمومية (Quantum Gates)، على مصفوفة مكونة من 105 “كيوبت” (Qubit) — وهي الوحدة الأساسية للمعلومات في الحوسبة الكمومية، على عكس “البت” في الحوسبة التقليدية. بعد ذلك، يقومون بإحداث اضطراب صغير في كيوبت واحد، وهو ما يشبه “تأثير الفراشة” (butterfly effect) في النظريات الفيزيائية. أخيرًا، يتم تشغيل نفس سلسلة العمليات بترتيب عكسي. الإشارات الناتجة عن العمليات الأمامية والعكسية تتداخل مع بعضها البعض، مما يخلق نمطًا موجيًا يشبه الصدى. هذا الصدى يحمل بصمات دقيقة حول التفاعلات الحساسة بين أجزاء النظام الكمومي، وهي معلومات كان من المستحيل تقريبًا استخلاصها بالطرق التقليدية.

شريحة “ويلو”: القلب النابض للتفوق الكمومي

كان هذا الإنجاز مستحيلاً لولا الأداء الفائق لشريحة “ويلو” (Willow) الكمومية التي طورتها جوجل. أوضحت سوشان تشان، مديرة المعالجات الكمومية في جوجل، أن الشريحة مبنية من دوائر فائقة التوصيل (superconducting circuits) وتتميز بدقة مذهلة في تنفيذ البوابات الكمومية، بالإضافة إلى تقنيات ذكية لتخفيف الأخطاء (error mitigation) التي تعتبر العائق الأكبر أمام بناء حواسيب كمومية قوية.

الضوضاء (Noise) في الأنظمة الكمومية تشبه التشويش في الإشارات اللاسلكية؛ فهي تتسبب في فقدان المعلومات الكمومية الهشة بسرعة، وهي ظاهرة تُعرف بـ “عدم الترابط الكمومي” (Quantum Decoherence). تاريخيًا، كان قياس الإشارات الدقيقة التي تنتجها خوارزميات مثل “الأصداء الكمومية” تحديًا هائلاً لأنها غالبًا ما تضيع وسط هذه الضوضاء. قدرة شريحة “ويلو” على تشغيل آلاف البوابات الكمومية المعقدة بدقة عالية سمحت للفريق بتقطير الإشارة المهمة من ضوضاء الخلفية. بالإضافة إلى ذلك، تتميز الشريحة بسرعة قياس استثنائية، حيث يمكنها إجراء ملايين القياسات في أقل من دقيقة. على مدار المشروع بأكمله، أجرى الفريق ما مجموعه تريليون قياس، وهو ما يمثل جزءًا كبيرًا من جميع القياسات التي تم إجراؤها على جميع الحواسيب الكمومية في التاريخ، مما يجعل هذه التجربة واحدة من أكثر التجارب تعقيدًا على الإطلاق.

قياس فوضى الكم: ما هو “OTOC”؟

النتيجة النهائية التي قدمتها خوارزمية “الأصداء الكمومية” هي قيمة تُعرف في عالم فيزياء الكم باسم “مُعامِل الارتباط غير المرتب زمنيًا” أو (Out-of-Time-Order Correlator - OTOC). قد يبدو الاسم معقدًا، لكنه يقيس مفهومًا جوهريًا: مدى حساسية نظام كمومي للاضطرابات الصغيرة وكيفية انتشار المعلومات والفوضى عبره بمرور الوقت والمكان. يمكن اعتباره مقياسًا كموميًا لـ “تأثير الفراشة”.

تكمن أهمية قياس (OTOC) في أنه يفتح نافذة على دراسة ظواهر فيزيائية عميقة مثل الفوضى الكمومية (Quantum Chaos) وديناميكيات الثقوب السوداء. عند البحث عن أدلة علمية تدعم هذا التوجه، نجد أن مجتمع الفيزياء النظرية مهتم بشدة بـ (OTOCs). على سبيل المثال، اقترحت دراسة مراجعة نُشرت في مجلة (Reports on Progress in Physics) عام 2018 بعنوان “Out-of-time-order correlators in quantum physics” أن هذه المُعامِلات هي أدوات قوية لفهم كيفية “تخليط” (scrambling) المعلومات في الأنظمة الكمومية المعقدة، وهي عملية يُعتقد أنها تحدث في الثقوب السوداء. نجاح جوجل في قياس (OTOC) بشكل موثوق على نظام كبير يمثل خطوة تجريبية هامة نحو التحقق من هذه النظريات.

من النظرية إلى التطبيق: ثورة محتملة في تصميم الأدوية

ربما يكون الجانب الأكثر إثارة في إعلان جوجل هو أنه لا يقتصر على الفيزياء النظرية، بل يقدم مسارًا واضحًا نحو أول تطبيق عملي للحواسيب الكمومية. أوضح نيكولاس روبين، كبير كيميائيي الكم في الفريق، كيف يمكن استخدام خوارزمية “الأصداء الكمومية” لتعزيز تقنية موجودة بالفعل تُعرف باسم “التحليل الطيفي بالرنين المغناطيسي النووي” (Nuclear Magnetic Resonance - NMR).

تقنية (NMR) هي أداة قوية يستخدمها الباحثون في الكيمياء والبيولوجيا لتحديد الشكل ثلاثي الأبعاد للجزيئات. شكل الجزيء أمر حاسم في تحديد وظيفته؛ فشكل البروتين يحدد كيفية تفاعله في الخلية، وشكل جزيء الدواء يحدد مدى فعاليته في الارتباط بالهدف. إذا أردنا تصميم أدوية أفضل، أو بطاريات أكثر كفاءة، أو مواد جديدة بخصائص فريدة، فنحن بحاجة إلى فهم دقيق لشكل الجزيئات في بيئتها المعقدة.

على الرغم من قوة (NMR)، إلا أنها تواجه قيودًا، خاصة عند دراسة الجزيئات الكبيرة أو الأنظمة المعقدة. يأمل فريق جوجل أن تساعد خوارزمية “الأصداء الكمومية” في التغلب على هذه القيود. لاختبار هذه الفكرة، عقد الفريق شراكة مع جامعة كاليفورنيا، بيركلي. قاموا بتشغيل الخوارزمية على شريحة “ويلو” للتنبؤ ببنية جزيئين مختلفين. بعد ذلك، قاموا بالتحقق من صحة تنبؤاتهم عن طريق قياس نفس الجزيئات باستخدام مطياف (NMR) تقليدي، وتطابقت النتائج.

هذه النتيجة تمثل خطوة أساسية نحو استخدام الحواسيب الكمومية كأداة للكيميائيين وعلماء المواد. يتفق خبراء آخرون على هذا الأمل. على سبيل المثال، أشار آلان أسبورو-جوزيك، وهو أستاذ في جامعة تورنتو وخبير رائد في استخدام الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية في اكتشاف المواد، في العديد من أوراقه البحثية إلى أن محاكاة الأنظمة الجزيئية هي واحدة من أكثر التطبيقات الواعدة للحواسيب الكمومية. وجدت مراجعة منهجية نُشرت في مجلة (Advanced Quantum Technologies) عام 2021 بعنوان “Quantum Computing for Drug Discovery and Development” أن الحوسبة الكمومية لديها القدرة على إحداث ثورة في المراحل الأولى من اكتشاف الأدوية عن طريق السماح بمحاكاة دقيقة للتفاعلات الجزيئية التي تتجاوز قدرات الحواسيب الفائقة الحالية.

سياق الإنجاز: ما بين “السيادة” و”التفوق القابل للتحقق”

من المهم وضع هذا الإنجاز في سياقه. في عام 2019، أعلنت جوجل عن تحقيق “السيادة الكمومية” (Quantum Supremacy) لأول مرة، حيث قام حاسوبها الكمومي “سيكامور” (Sycamore) بإجراء عملية حسابية في 200 ثانية قالت إنها ستستغرق 10,000 عام على أقوى حاسوب فائق. أثار هذا الإعلان جدلاً واسعًا، حيث ردت شركة (IBM) المنافسة بأن حاسوبها الفائق يمكنه أداء نفس المهمة في 2.5 يوم فقط، مما قلل من حجم الإنجاز.

الإعلان الجديد يختلف في نقطة جوهرية: “قابلية التحقق”. المهمة التي أنجزها حاسوب “سيكامور” في 2019 كانت مصممة خصيصًا لتكون صعبة على الحواسيب التقليدية، لكن نتيجتها كانت عشوائية وصعبة التحقق، مما جعلها تمرينًا أكاديميًا أكثر من كونها أداة علمية. أما الإنجاز الحالي، فينتج عنه قيمة علمية محددة (OTOC) يمكن التحقق منها ومقارنتها بالنماذج النظرية، مما ينقل الحوسبة الكمومية من “إثبات المفهوم” إلى “أداة للبحث العلمي”. علق سكوت آرونسون، عالم الكمبيوتر النظري البارز في جامعة تكساس في أوستن، على أهمية مثل هذه المعايير في مدونته، مشيرًا إلى أن الخطوة التالية بعد إثبات التفوق الحسابي هي استخدامه لحل مشاكل ذات أهمية علمية حقيقية.

مع هذا الإنجاز، يبدو أن جوجل قد خطت هذه الخطوة بنجاح. الفريق متفائل بأنه في غضون خمس سنوات، سنبدأ في رؤية تطبيقات واقعية لا يمكن تحقيقها إلا على الحواسيب الكمومية، مما يفتح فصلاً جديدًا في قصة سعي الإنسان لفهم الطبيعة وتسخيرها.


تنويه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تعليمية فقط ولا يعتبر نصيحة طبية.