هل يمكن أن يكون الوعي، ذلك الشعور الداخلي العميق الذي يمنح كل واحد منا هويته وإحساسه بالوجود، مجرد وهم معقد ينسجه الدماغ؟ هذا السؤال المثير للجدل ليس مجرد تمرين فلسفي، بل هو في صميم ما يُعرف في الأوساط العلمية والفلسفية بـ “المسألة الصعبة” (The Hard Problem)، والتي قد تكون أكبر معضلة تواجه العلم الحديث. في حديث له على يوتيوب، تناول الدكتور نضال قسوم، عالم الفيزياء الفلكية والمفكر، هذه القضية الشائكة، مستعرضًا أبعادها المختلفة من منظور العلم والفلسفة والتكنولوجيا.
لفهم صعوبة المسألة، يجب أولًا تعريف الوعي. الوعي هو ذلك الإحساس الشخصي بامتلاك حياة داخلية، منظور ذاتي للعالم. إنه إدراكك بأن لديك أفكارًا ومشاعر، وأنك كيان مستقل عن الآخرين وعن محيطك. يمكنك أن تغمض عينيك وتغوص في عالم من الأفكار، تحل المسائل، تتخيل، تفرح، أو تحزن، كل ذلك في مسرح عقلك الداخلي. هذا الإحساس بالذات المنفصلة التي تختبر العالم بشكل فريد هو جوهر الوعي. لكن من أين يأتي هذا الشعور؟ هل هو مجرد نتاج للنشاط الكهربائي في شبكات الدماغ العصبية، أم أنه شيء يتجاوز المادة؟
الانقسام الكبير: ثنائية العقل والجسد مقابل النظرة المادية
تاريخيًا، كان الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت (René Descartes) من أوائل من صاغوا فكرة “الثنائية” (Dualism) في القرن السابع عشر. اقترح ديكارت أن الإنسان يتكون من جوهرين مختلفين: الجسد المادي الممتد (Res Extensa)، والعقل المفكر غير المادي (Res Cogitans). وفقًا لهذه النظرة، فإن الوعي والعقل ينتميان إلى عالم الأفكار، وهو عالم مستقل عن المادة ولكنه يتفاعل معها. فعندما يتعرض جسدك لأذى، تشعر به نفسيًا، وعندما تفكر في القيام بفعل ما، يستجيب جسدك.
لكن هذه الفكرة واجهت اعتراضًا قويًا، خاصة من علماء الفيزياء. تمثل الاعتراض الرئيسي في أن تفاعل العقل غير المادي مع الجسد المادي يعني وجود “علل” أو “قوى” غير مادية تؤثر في العالم المادي. هذا يتعارض مع مبدأ أساسي في الفيزياء يُعرف بـ “الانغلاق السببي للعالم المادي” (Causal Closure of the Physical)، والذي ينص على أن أي حدث مادي لا يمكن أن يكون له سوى سبب مادي. فكيف يمكن إدخال “قوة روحية” أو “عقلية” في معادلات الحركة والطاقة الفيزيائية؟ هذا من شأنه أن يجعل قوانين الفيزياء غير مكتملة ويفتح الباب أمام متغيرات غامضة لا يمكن قياسها.
نتيجة لهذه الصعوبات، يتبنى معظم العلماء اليوم وجهة نظر “مادية” (Materialism) أو “طبيعية” (Naturalism)، والتي تفترض أن الوعي هو ظاهرة “انبثاقية” (Emergent Phenomenon) تنشأ من تعقيد الدماغ. تمامًا كما تنبثق “الحياة” من تفاعلات كيميائية معقدة بين جزيئات غير حية، يُعتقد أن “الوعي” ينبثق من التفاعلات الكهربائية والكيميائية بين مليارات الخلايا العصبية في الدماغ. تدعم هذه النظرة أدلة من علم الأعصاب، حيث أظهرت دراسات تصوير الدماغ أن حالات الوعي المختلفة ترتبط بأنماط محددة من النشاط الدماغي. على سبيل المثال، حددت نظريات مثل “نظرية الفضاء العملي الشامل” (Global Workspace Theory) و”نظرية المعلومات المتكاملة” (Integrated Information Theory) شبكات دماغية يُعتقد أنها ضرورية للتجربة الواعية.
ومع ذلك، هناك من يذهب إلى أبعد من ذلك. الفيلسوف الأمريكي الشهير دانيال دينيت (Daniel Dennett)، في كتابه “الوعي مُفسَّرًا” (Consciousness Explained)، يجادل بأن الوعي الذاتي الذي نشعر به ليس سوى “وهم” أو “واجهة مستخدم” يخلقها الدماغ لتبسيط عملياته المعقدة. من وجهة نظره، لا يوجد “مسرح ديكارتي” في العقل حيث يجلس “أنا” ليشاهد العالم، بل مجرد عمليات حاسوبية متوازية تحدث في الدماغ، ونحن نفسرها لاحقًا على أنها تجربة واعية متماسكة.
هل نحن وحدنا الواعون؟ لمحة عن عوالم الحيوانات والآلات
إذا كان الوعي نتاجًا لتعقيد الدماغ، فهل هو حكر على البشر؟ يعتقد العديد من العلماء والفلاسفة أن بعض الحيوانات، خاصة تلك التي تمتلك أجهزة عصبية متطورة، تشاركنا شكلًا من أشكال الوعي. نلاحظ في الحيوانات الأليفة كالكلاب والقطط سلوكيات توحي بوجود مشاعر وحياة داخلية. وقد قدمت الأبحاث أدلة أكثر منهجية. أشهر هذه الأدلة هو “اختبار المرآة” (Mirror Test)، الذي يُستخدم لتقييم الوعي بالذات. في هذا الاختبار، يتم وضع علامة على جسد الحيوان في مكان لا يراه إلا في المرآة. إذا حاول الحيوان لمس العلامة على جسده بدلًا من لمسها على المرآة، فهذا يشير إلى أنه يدرك أن الانعكاس هو صورته هو. وقد نجحت في هذا الاختبار أنواع مختلفة مثل الشمبانزي، الدلافين، الفيلة، وبعض الطيور مثل العقعق. في عام 2012، أصدر مجموعة من علماء الأعصاب البارزين “إعلان كامبريدج بشأن الوعي” (The Cambridge Declaration on Consciousness)، الذي أكدوا فيه أن الأدلة المتراكمة تشير إلى أن العديد من الحيوانات غير البشرية تمتلك الركائز العصبية للوعي.
لكن ماذا عن الوعي الاصطناعي؟ مع التطور الهائل في الذكاء الاصطناعي، يبرز سؤال ملح: هل يمكن لآلة معقدة بما فيه الكفاية أن تصبح واعية؟ هل يمكن لبرامج الكمبيوتر والروبوتات المتقدمة أن تتجاوز مجرد محاكاة السلوك الذكي لتطور حياة داخلية حقيقية؟
هذا السؤال قاد إلى تطوير عدة اختبارات فكرية. أشهرها “اختبار تورينج” (Turing Test)، الذي اقترحه عالم الرياضيات آلان تورينج (Alan Turing) عام 1950. يهدف الاختبار إلى تحديد ما إذا كانت الآلة قادرة على إظهار سلوك ذكي لا يمكن تمييزه عن سلوك الإنسان. إذا حاور شخص ما كيانين عبر شاشة نصية - أحدهما إنسان والآخر آلة - ولم يتمكن من التمييز بينهما بشكل موثوق، فإن الآلة تكون قد اجتازت الاختبار. رأى تورينج أن هذا قد يكون مؤشرًا على “التفكير”، وربما الوعي. لكن العديد من الفلاسفة، مثل جون سيرل (John Searle)، انتقدوا هذا الاستنتاج.
في تجربته الفكرية الشهيرة “حجة الغرفة الصينية” (The Chinese Room Argument)، يتخيل سيرل شخصًا لا يفهم اللغة الصينية على الإطلاق، يجلس في غرفة مغلقة. يُعطى هذا الشخص مجموعة من القواعد (برنامج كمبيوتر) باللغة الإنجليزية، والتي تخبره بكيفية ربط الرموز الصينية الواردة برموز صينية أخرى وإخراجها كإجابة. بالنسبة لمراقب خارجي يتحدث الصينية، ستبدو إجابات الغرفة وكأنها صادرة عن شخص يفهم الصينية تمامًا. لكن الشخص داخل الغرفة لا يفهم كلمة واحدة؛ هو فقط يتبع القواعد ويتلاعب بالرموز. يجادل سيرل بأن هذا هو كل ما يفعله الكمبيوتر: معالجة الرموز (Syntax) دون فهم معناها (Semantics). وبالتالي، حتى لو اجتاز الكمبيوتر اختبار تورينج، فإنه لا يمتلك فهمًا حقيقيًا أو وعيًا.
نافذة على العقل: الدروس من الطب وعلم النفس
بعيدًا عن الفلسفة المجردة، يقدم الطب وعلم النفس رؤى ملموسة حول طبيعة الوعي. إن دراسة الحالات التي يتغير فيها الوعي أو يختفي تكشف الكثير عن آلياته الدماغية.
- النوم والأحلام: أثناء النوم، نفقد الوعي بالعالم الخارجي، لكننا غالبًا ما نختبر عالمًا داخليًا غنيًا في الأحلام. الأحلام هي حالة وعي فريدة، حيث نكون أحيانًا مدركين أننا نحلم (الحلم الواضح - Lucid Dreaming)، مما يطرح أسئلة حول مستويات الوعي.
- الحالات المرضية: حالات مثل الصرع، الهذيان (Delirium) الناتج عن الحمى أو الأدوية، والذهان (Psychosis) الذي يتضمن هلاوس وأوهام، كلها تمثل اضطرابات عميقة في الوعي. دراسة أدمغة المرضى في هذه الحالات تساعد العلماء على تحديد المناطق والشبكات العصبية التي تتعطل.
- ظاهرة الإبصار الأعمى (Blindsight): وهي حالة عصبية مذهلة تحدث لبعض الأشخاص الذين أصيبوا بتلف في قشرة الدماغ البصرية الأولية. هؤلاء المرضى لا “يرون” بشكل واعٍ في جزء من مجالهم البصري، ولكن عند إجبارهم على التخمين بشأن موقع أو شكل جسم ما في هذا الجزء “الأعمى”، تكون تخميناتهم صحيحة بمعدل يفوق الصدفة بكثير. وقد أظهرت دراسة مراجعة نشرت في مجلة Nature Reviews Neuroscience أن هذه الظاهرة تكشف عن وجود مسارات بصرية بديلة في الدماغ تعالج المعلومات دون أن تصل إلى عتبة الوعي الذاتي. هذا يثبت أن المعالجة المعرفية يمكن أن تحدث بشكل منفصل تمامًا عن التجربة الواعية.
هذه الحالات مجتمعة تدعم فكرة أن الوعي ليس خاصية “كل شيء أو لا شيء”، بل هو عملية معقدة يمكن أن تتجزأ وتتأثر بالإصابات والأمراض والمواد الكيميائية، مما يعزز الرأي القائل بأن دراسته يجب أن ترتكز على علم الأعصاب والطب النفسي.
الوعي والإيمان: هل هناك مستويات عليا للوجود؟
في نهاية المطاف، يقودنا البحث عن الوعي إلى أسئلة وجودية وروحانية. يطرح بعض المفكرين الغربيين فكرة أن الوعي ليس مجرد حالة واحدة، بل هو طيف من المستويات المتدرجة:
- الوعي البسيط (Simple Consciousness): هو الإدراك الأساسي للجسد والمحيط، والقدرة على التمييز بين الذات والآخر. يُعتقد أن هذا المستوى موجود لدى معظم الحيوانات.
- الوعي المعقد (Complex Consciousness): وهو الوعي بالذات ككيان له حياة داخلية غنية، والقدرة على التفكير المجرد، والتأمل الذاتي، والتخطيط للمستقبل. هذا المستوى قد يكون فريدًا لدى البشر.
- الوعي الأعلى (Higher Consciousness): وهو مستوى يتجاوز الذات الفردية، ويصل إلى إدراك حقائق أعمق عن الوجود، أو ما يصفه المؤمنون بأنه “الوعي بالخالق” أو “الاتصال الإلهي”. هذا المستوى يرتبط بمفاهيم مثل “الروح” (Soul) و”النفس” (Self) في التقاليد الدينية والفلسفية.
هذه الفكرة عن تدرج الوعي تجد أصداءً في تقاليد الحكمة القديمة. في الفلسفة الهندوسية (الفيدانتا)، يوصف الإنسان بأنه مكون من أغلفة (Koshas) متعددة، تبدأ من الجسد المادي وتترقى عبر طبقات الطاقة والعقل والحكمة، وصولًا إلى “الذات النعيمية” (Anandamaya Kosha) التي تمثل الوعي الصافي. وفي الطب الصيني التقليدي، يرتبط مفهوم “شين” (Shen) - الذي يترجم أحيانًا بالروح أو العقل - بالوعي والمشاعر ويُعتقد أنه يسكن في القلب.
إن لغز الوعي لا يزال قائمًا، وهو يمثل نقطة التقاء فريدة بين العلم والفلسفة والتكنولوجيا والروحانية. سواء كان الوعي خاصية انبثاقية للمادة، أو وهمًا معقدًا، أو نافذة على حقيقة أسمى، فإن السعي لفهمه هو في جوهره سعي لفهم أعمق جزء من إنسانيتنا.
تنبيه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية.