ماذا لو كانت نهاية الحياة كما نعرفها ليست النهاية الحقيقية؟ ماذا لو أن الوعي، جوهر وجودنا، لا يتلاشى مع توقف نبضات القلب، بل يواصل رحلته في أبعاد تتجاوز فهمنا المادي؟ هذه الأسئلة التي حيرت الفلاسفة والعلماء لقرون، تجد صدى عميقاً في قصة إليزابيث كون، المحامية السابقة التي تحولت حياتها رأساً على عقب بعد تجربة غيّرت كل ما كانت تؤمن به. لم تكن مجرد قصة، بل كانت رحلة إلى حافة الموت والعودة منه، رحلة حملت معها رؤى مذهلة عن طبيعة الوجود والحب والوعي.

في فيديو مؤثر على يوتيوب، تروي إليزابيث كون، التي كانت تتمتع بعقلية منطقية بحتة ترى العالم بالأبيض والأسود فقط، تفاصيل الحادثة التي أعادت تعريف واقعها. كانت حياتها تسير في مسار تقليدي: نشأة طبيعية، زواج، دراسة القانون، وأم لطفلين. لكن في يوم ممطر من عامها الثامن والعشرين، وفي الذكرى السنوية الأولى لوفاة جدها، انقلب كل شيء.

الصاعقة التي فتحت أبواب العالم الآخر

كانت إليزابيث في طريقها مع طفليها الصغيرين إلى الكنيس اليهودي. فجأة، ودون سابق إنذار، تحولت السماء الصافية إلى غيمة سوداء، وبدأ المطر يهطل بغزارة. في موقف يتكرر آلاف المرات حول العالم، خرجت من سيارتها حاملة مظلة لتحمي نفسها وابنها البالغ من العمر عامين. لكن تفصيلاً صغيراً كان له أثر كارثي: كانت تمسك بعمود المظلة المعدني بيدها التي يزينها خاتم زواجها، مما خلق موصلاً مثالياً للكهرباء.

شعرت ببرودة غريبة في الهواء، إحساس يشبه الكهرباء الساكنة. وفي اللحظة التي فكرت فيها بضرورة ترك المظلة، ضربتها صاعقة برق عنيفة. وصفت إليزابيث المشهد التالي بأنه سريالي ومفكك. رأت ابنها يصرخ، وشقيقه الأكبر يركض نحوهما لسحبه إلى بر الأمان. لكنها شعرت بأنها منفصلة عن كل ما يحدث.

دخلت بهو المبنى ووجدت نفسها تتساءل لماذا يتجاهلها الجميع، ولماذا لا يوجه لها أحد أي كلمة. كانت واقفة هناك، لكن لا أحد يراها. ثم، من خلال نافذة، رأت جسدها ملقى على الأرض في موقف السيارات. تقول: “نظرت إلى الكومة الملقاة على الأرض وقلت لنفسي: يا إلهي، هذه أنا”. كانت تلك اللحظة التي بدأت فيها تجربتها في الخروج من الجسد (Out-of-Body Experience)، وهي ظاهرة شائعة في روايات تجارب الاقتراب من الموت (Near-Death Experiences - NDEs).

عندما أدركت أنها ميتة، ظهر نور نابض بالحياة والوعي. شعرت بأن النور يدعوها لاتباعه، وقادها إلى مكان وصفته بأنه “الجنة”، حديقة تفوق أي وصف أرضي. كل شيء كان مثالياً ومفعماً بالحب غير المشروط، وهو شعور وصفته بأنه أعمق وأقوى بكثير من حبها لأطفالها.

لقاء مع الإله وفهم أسرار الكون

في هذا العالم الآخر، سمعت صوت جدها المتوفى يدعوها للجلوس. تعتقد إليزابيث أن هذا الصوت لم يكن جدها حقاً، بل كان “الله” يتخذ صوتاً مألوفاً ليمنحها الطمأنينة. بمجرد جلوسها، غمرها شعور بالحب المطلق وأنها عادت إلى “الوطن”.

بدأت إليزابيث بطرح الأسئلة، وكانت الإجابات تتدفق إلى عقلها بشكل فوري، كأنها عملية “تنزيل للمعلومات”. تقول إنها فهمت مفاهيم معقدة للغاية مثل فيزياء الكم والعلاقة بين الزمان والمكان، وهي أمور تجد صعوبة بالغة في استيعابها في حياتها الأرضية. وصفت وجودنا على الأرض بأنه أشبه بالسباحة في “حساء البازلاء”، عالم كثيف وثقيل وصعب.

هذه الرواية تتناغم مع شهادات أخرى لمن مروا بتجارب مماثلة، والذين يتحدثون عن وصولهم إلى حالة من المعرفة الكلية والفهم الشامل. يرى بعض الباحثين في مجال الوعي، مثل الدكتور بروس غريسون (Dr. Bruce Greyson)، أستاذ الطب النفسي بجامعة فيرجينيا ومؤلف كتاب “After”، أن هذه التجارب تتحدى الفهم المادي القائل بأن الوعي هو مجرد نتاج للدماغ. في دراسة مراجعة نُشرت في مجلة “The Lancet” عام 2007، أشار الدكتور بيم فان لوميل (Pim van Lommel)، طبيب القلب الهولندي، إلى أن وجود وعي واضح ومنظم أثناء توقف القلب والدماغ عن العمل يطرح أسئلة جوهرية حول علاقة العقل بالدماغ.

الاختيار الصعب والعودة المؤلمة

في خضم هذا السلام والمعرفة، خُيّرت إليزابيث بين البقاء في هذا العالم المثالي أو العودة إلى حياتها الأرضية. قيل لها إن لديها “المزيد مما خططت للقيام به في هذه الحياة”، وأنها ستنجب طفلاً ثالثاً، فتاة، اختارتها هي وزوجها بالفعل كوالدين لها. أمام خيار إكمال مهمتها الحالية أو البدء من جديد في حياة أخرى، اختارت العودة.

لكن العودة لم تكن سهلة. تم تحذيرها من أنها ستكون مؤلمة جسدياً بسبب الحروق، وأن عملية “ضغط” روحها الموسعة لتعود إلى جسدها المادي ستكون أشبه بتكسير كل عظامها. وهذا ما حدث بالفعل. استيقظت لتجد نفسها ملقاة تحت المطر، والألم يعتصر جسدها، والناس قد بدأوا يهرعون لمساعدتها.

من عجائب القدر أن أحد الأطباء الموجودين في الكنيس كان متخصصاً في علاج الصعق الكهربائي، وقدم لها الإسعافات الأولية اللازمة. أمضت إليزابيث الأشهر الثلاثة التالية طريحة الفراش بسبب الحروق الشديدة في قدميها، والتي لا تزال تحمل ندوبها حتى اليوم كدليل مادي على ما حدث.

التحول الروحي وتحدي الإنكار

كانت أصعب مرحلة بعد عودتها هي محاولة فهم ما جرى ومشاركته مع الآخرين. واجهت الرفض والتشكيك. زوجها، الذي انفصلت عنه بعد تسع سنوات، اتهمها بأنها “تفقد عقلها” وأن ما رأته كان مجرد حلم. رجال الدين الذين لجأت إليهم كانوا لطفاء لكنهم رفضوا الخوض في تجربتها. فقط والدتها صدقتها وآمنت بها.

هذا التحول الجذري في نظرتها للعالم هو السمة الأبرز في قصة إليزابيث. تحولت من شخصية مادية متشككة، تؤمن بأن الموت هو النهاية، إلى شخصية روحانية عميقة تدرك أن الوعي باقٍ. تقول: “عندما تعلم أن الموت ليس النهاية، يتغير كل شيء”.

هذه التجربة تتوافق مع آلاف الحالات الموثقة حول العالم. الدكتور ريموند مودي (Dr. Raymond Moody)، الذي صاغ مصطلح “تجربة الاقتراب من الموت” في كتابه “الحياة بعد الحياة” (Life After Life) عام 1975، وثّق العديد من العناصر المشتركة بين هذه التجارب، مثل رؤية النور، والشعور بالسلام، ولقاء كائنات نورانية أو أقارب متوفين.

أدلة علمية وآراء الخبراء

على الرغم من أن هذه التجارب ذاتية، إلا أن المجتمع العلمي بدأ يأخذها على محمل الجد. مشروع AWARE (AWAreness during REsuscitation)، بقيادة الدكتور سام بارنيا (Dr. Sam Parnia) من جامعة نيويورك، هو أكبر دراسة أجريت على الإطلاق حول الوعي أثناء السكتة القلبية. في نتائج المرحلة الأولى التي نُشرت عام 2014 في مجلة “Resuscitation”، تم توثيق حالة واحدة على الأقل لمريض قدم وصفاً دقيقاً للأحداث التي وقعت في غرفة الإنعاش أثناء توقف قلبه ودماغه، وهو ما لا يمكن تفسيره علمياً حتى الآن.

كما أن هناك خبراء بارزين من خلفيات علمية صارمة مروا بتجارب مماثلة، مثل الدكتور إيبن ألكساندر (Dr. Eben Alexander)، جراح الأعصاب من جامعة هارفارد، الذي دخل في غيبوبة لمدة أسبوع بسبب التهاب السحايا الجرثومي. خلال تلك الفترة، كان قشره المخي (الجزء المسؤول عن الوعي) معطلاً تماماً. ومع ذلك، فقد مر بتجربة غنية ومعقدة في عالم آخر، وثقها في كتابه “دليل على الجنة” (Proof of Heaven). يجادل الدكتور ألكساندر بأن تجربته هي دليل قاطع على أن الوعي ليس نتاجاً للدماغ وحده.

أصداء في التقاليد الروحية القديمة

ما تصفه إليزابيث ليس جديداً على التقاليد الروحية البشرية. “كتاب الموتى التبتي” (Bardo Thödol)، على سبيل المثال، هو دليل إرشادي قديم يصف المراحل التي تمر بها النفس بعد الموت، بما في ذلك مواجهة “النور الصافي” وفرصة التحرر. كما أن العديد من التقاليد الشامانية حول العالم تتحدث عن رحلات الروح إلى عوالم أخرى للتواصل مع الأرواح واكتساب المعرفة. قصة إليزابيث تبدو وكأنها تجسيد حي ومعاصر لهذه المعتقدات القديمة.

رسائل من العالم الآخر

لم تنتهِ تجربة إليزابيث عند عودتها. بعد سنوات، وبعد وفاة والدتها، مرت بموقف غريب. أثناء ذهابها للتصويت، تحدثت معها متطوعة في موقف السيارات. عند خروجها، سألتها المتطوعة: “أين السيدة الكبيرة التي كانت معك؟”. استغربت إليزابيث وقالت إنها كانت بمفردها. أصرت المتطوعة ووصفت ملابس السيدة بأنها “بلوزة زرقاء وخضراء بأزرار مزخرفة كبيرة”. صُدمت إليزابيث، فقد كانت والدتها قد دُفنت بنفس البلوزة تماماً.

بالنسبة لإليزابيث، كانت هذه رسالة واضحة بأن التواصل مع من رحلوا ممكن، وأن الروابط لا تنقطع بالموت.

الخاتمة: الحياة هي الجائزة

في نهاية حديثها، تقدم إليزابيث كون خلاصة تجربتها: الوجود كإنسان على الأرض تجربة صعبة، لكنها ثمينة. لم تعد تخشى الموت، بل تراه “عودة إلى الوطن”. لكنها في الوقت نفسه، تقدر الحياة الحالية أكثر من أي وقت مضى، وترى أن الهدف هو عيشها بسعادة وحب، والاستمتاع بالعلاقات مع الأحباء. تقول إن معرفتها بوجود عالم آخر يمنحها القوة لمواجهة صعوبات الحياة، مدركة أن هذه الرحلة الأرضية مؤقتة، وأن هناك ما هو أعظم ينتظرنا.

قصة إليزابيث كون، مدعومة بأبحاث علمية متزايدة وآراء خبراء مرموقين، تدعونا لإعادة التفكير في أعمق معتقداتنا حول الحياة والموت والوعي. إنها تفتح نافذة على احتمال أن يكون وجودنا أكبر وأكثر ديمومة مما نتخيل.


تنبيه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تعليمية وتثقيفية فقط، ولا يعتبر نصيحة طبية. يجب دائمًا استشارة متخصصي الرعاية الصحية المؤهلين بخصوص أي حالة طبية.