هل الموت هو النهاية الحتمية لكل شيء، أم أنه مجرد محطة انتقال إلى واقع آخر لا ندرك كنهه؟ هذا السؤال الفلسفي والوجودي لطالما أرق البشرية. لكن ماذا لو كانت الإجابات تكمن في اللحظات الأخيرة من حياة أحبائنا؟
في شهادة مؤثرة نُشرت على يوتيوب، تروي ممرضة متقاعدة قصة ستبقى محفورة في ذاكرتها إلى الأبد، وهي تجربة عاشتها مع جدتها في ليلة وفاتها. هذه القصة لا تقدم فقط لمحة عن الغموض الذي يكتنف الموت، بل تتحدى أيضاً مفاهيمنا المادية عن الوعي والحياة، وتطرح أسئلة عميقة حول ما يحدث عندما يتوقف القلب عن النبض.
تروي الممرضة أنها قضت الليلة بأكملها بجانب جدتها المحتضرة، برفقة والدها الذي كان في ذلك الوقت “لاأدرياً” (Agnostic)، أي أنه لم يكن يؤمن أو ينكر وجود قوة إلهية، بل كان يعتقد أنه لا يمكن معرفة الحقيقة. كانت الجدة في البداية تتحدث بعقلانية تامة، وتطلب منهم العودة إلى المنزل وألا يقلقوا بشأنها. مع مرور الوقت، بدأت علامات اقترابها من الموت تظهر بوضوح.
لكن فجأة، حدث شيء مذهل. بدأت الجدة تتحدث مرة أخرى بصفاء ووضوح تام، لكنها لم تكن تتحدث إليهم. كانت كلماتها ونبرتها تشبه حديثاً ودياً مع صديق قديم. خلال هذا الحوار الغامض، ذكرت اسم شخصية مشهورة جداً في المملكة المتحدة. في تلك اللحظة، افترضت الممرضة ووالدها أنها بدأت تهذي (Delirious) نتيجة لتدهور حالتها، وأنها تنطق بكلمات عشوائية لا معنى لها.
لم يمض وقت طويل حتى فارقت الجدة الحياة. في صباح اليوم التالي، وبينما كان الراديو يعمل، جاء الإعلان الأول في نشرة الأخبار صادماً: الشخصية المشهورة التي ذكرتها الجدة قد توفيت خلال الليل. تقول الممرضة: “لقد صعقنا تماماً. لم يكن هناك أي طريقة يمكن لجدتي أن تعرف بوفاة ذلك الشخص”.
هذه الحادثة لم تكن مجرد صدفة عابرة، بل كانت نقطة تحول جذرية في حياة والدها، الذي تخلى عن لاأدريته بعد ما شهده. وتختم الممرضة قصتها قائلة: “ما زلت أشعر بالقشعريرة حتى يومنا هذا كلما تذكرت الأمر. ومنذ ذلك الحين، أصبحت مقتنعة بأن الموت ليس النهاية. روحك تنتقل ببساطة إلى مكان آخر”.
هذه القصة المؤثرة ليست فريدة من نوعها، بل هي مثال حي لظواهر حقيقية وموثقة تحدث للآلاف من الناس حول العالم في لحظاتهم الأخيرة، وهي ظواهر دفعت العلماء والأطباء إلى التساؤل بجدية عن طبيعة الوعي البشري.
الصحوة النهائية (Terminal Lucidity): عندما يعود العقل فجأة
إن ما حدث مع الجدة، حيث استعادت وضوحها العقلي وقدرتها على التواصل بشكل مفاجئ قبل وفاتها مباشرة، يُعرف في الأوساط الطبية بظاهرة “الصحوة النهائية” أو “الوضوح النهائي” (Terminal Lucidity). إنها ظاهرة متناقضة ومحيرة، حيث يستعيد المرضى الذين يعانون من اضطرابات عصبية حادة، مثل الخرف المتقدم (Dementia) أو أورام الدماغ، قدراتهم العقلية والذهنية لفترة وجيزة قبل الموت.
لسنوات، كان يُنظر إلى هذه الحالات على أنها مجرد حكايات متفرقة، ولكن الاهتمام العلمي بها يتزايد. عندما بحثت في الأدبيات العلمية، وجدت أن هذه الظاهرة موثقة جيداً. على سبيل المثال، قامت مراجعة علمية نُشرت في “Journal of Near-Death Studies” بتحليل عشرات الحالات الموثقة عبر التاريخ. تشير هذه الدراسات إلى أن الصحوة النهائية تتحدى فهمنا الحالي لكيفية عمل الدماغ. فكيف يمكن لعقل متضرر بشدة، وغير قادر على أداء وظائفه الأساسية لسنوات، أن يعود فجأة إلى العمل بكفاءة عالية؟
يقترح بعض الباحثين أن هذه الظاهرة قد تشير إلى أن الوعي قد لا يكون ناتجاً حصرياً عن الدماغ، بل قد يكون الدماغ مجرد “جهاز استقبال” أو “مرشح” للوعي. وعندما يبدأ هذا الجهاز في الانهيار، قد يتمكن الوعي من التعبير عن نفسه بشكل كامل للحظات أخيرة.
رؤى فراش الموت (Deathbed Visions): لمحات من العالم الآخر
الجزء الثاني من القصة، وهو حديث الجدة مع “صديق قديم” غير مرئي، يندرج تحت ظاهرة أخرى معروفة وهي “رؤى فراش الموت” (Deathbed Visions). هذه التجارب شائعة جداً بين المحتضرين.
الدكتور كريستوفر كير (Dr. Christopher Kerr)، وهو طبيب متخصص في رعاية المحتضرين في أحد المستشفيات (Hospice)، قضى أكثر من عقد في توثيق ودراسة أحلام ورؤى أكثر من 1400 مريض في نهاية حياتهم. في كتابه “الموت ليس إلا حلماً” (Death Is But a Dream)، يوضح الدكتور كير أن ما يقرب من 88% من مرضاه يختبرون هذه الرؤى.
وجد بحثه، الذي تم تقديمه في حديث TEDx شهير، أن هذه الرؤى غالباً ما تكون مريحة للغاية للمرضى. إنهم يرون ويتحدثون مع أحبائهم الذين توفوا بالفعل، مثل الآباء أو الأمهات أو الأزواج، ويشعرون بأنهم يستعدون لرحلة أو للعودة إلى “الوطن”. يؤكد الدكتور كير أن هذه التجارب تختلف تماماً عن الهلوسة الناتجة عن الأدوية أو المرض، فهي منظمة وذات معنى وتجلب السلام للمحتضر، وتقلل من خوفه من الموت.
الإدراك الصادق (Veridical Perception): المعرفة المستحيلة
الجزء الأكثر إثارة للدهشة في قصة الممرضة هو معرفة جدتها بوفاة الشخصية المشهورة قبل إعلان الخبر. هذا النوع من المعرفة، الذي يتم الحصول عليه بطرق تتجاوز الحواس الخمس المعروفة، يسمى “الإدراك الصادق” (Veridical Perception) في أبحاث تجارب الاقتراب من الموت.
هذه الظاهرة هي التي تجعل من الصعب على المتشككين تقديم تفسيرات مادية بسيطة. الدكتور بروس غريسون (Dr. Bruce Greyson)، الأستاذ الفخري للطب النفسي في جامعة فيرجينيا وأحد أبرز الباحثين في تجارب الاقتراب من الموت، وثّق العديد من هذه الحالات في كتابه “بعد” (After). إحدى الحالات الشهيرة هي حالة امرأة تدعى ماريا، والتي خلال نوبة قلبية، وصفت رؤيتها لحذاء تنس على حافة نافذة في الطابق الثالث من المستشفى، وقدمت تفاصيل دقيقة عنه تم التحقق منها لاحقاً.
تتحدى هذه الحالات فكرة أن الوعي محصور بالكامل داخل الدماغ. فإذا كان الدماغ متوقفاً عن العمل (كما في حالة السكتة القلبية)، فكيف يمكن للوعي أن يرى ويسمع ويدرك معلومات دقيقة من موقع خارج الجسم المادي؟
الدكتور سام بارنيا (Dr. Sam Parnia)، وهو طبيب بريطاني يقود دراسة AWARE (AWAreness during REsuscitation)، حاول التحقق من هذه الظاهرة بشكل علمي. في دراسته، تم وضع صور على أرفف عالية في غرف الإنعاش لا يمكن رؤيتها إلا من منظور مرتفع. على الرغم من أن الدراسة لم تسفر عن نتائج حاسمة في هذا الجانب، إلا أنها وجدت أن ما يقرب من 40% من الناجين من السكتة القلبية لديهم شكل من أشكال الوعي خلال فترة الموت السريري. وفي دراسة AWARE-II الأحدث، تم رصد إشارات دماغية مرتبطة بالوعي لمدة تصل إلى ساعة أثناء عملية الإنعاش القلبي الرئوي، مما يشير إلى أن العقل قد يظل نشطاً حتى بعد توقف القلب.
مقارنات في التقاليد العالمية
إن فكرة استمرار الوعي بعد الموت ليست جديدة، بل هي حجر الزاوية في العديد من التقاليد الروحية والفلسفية حول العالم.
- في الطب الصيني التقليدي (TCM): يُعتقد أن الروح أو العقل (Shen) يسكن في القلب. عند الموت، يغادر الـ “Shen” الجسد. هذه التقاليد تصف عمليات مشابهة لما يرويه المحتضرون عن الشعور بالانفصال عن الجسد.
- في الأيورفيدا (Ayurveda): النظام الطبي الهندي القديم يتحدث عن “برانا” (Prana)، وهي قوة الحياة التي تتدفق عبر الجسم. عند الموت، تغادر “برانا” الجسد المادي، وتستمر رحلة الروح (Atman).
- في التقاليد الإسلامية: يُنظر إلى الموت على أنه انتقال للروح (الروح) من الحياة الدنيا إلى عالم البرزخ، وهو حالة وجودية بين الموت ويوم القيامة. القصص عن رؤية الملائكة أو الأحباء المتوفين عند الاحتضار شائعة أيضاً في التراث.
هذه التشابهات عبر الثقافات تشير إلى أن هذه التجارب قد تكون جزءاً عالمياً من التجربة الإنسانية للموت، وليست مجرد نتاج للخيال أو الثقافة المحلية.
خاتمة: بين العلم والروحانية
قصة الممرضة وجدتها هي نافذة صغيرة على لغز كبير. إنها تجمع بين ثلاث ظواهر محيرة: الصحوة النهائية، ورؤى فراش الموت، والإدراك الصادق. بينما يسعى العلم جاهداً لفهم هذه التجارب من خلال دراسة وظائف الدماغ، فإن هذه الظواهر باستمرار تتحدى التفسيرات المادية البحتة.
إنها تتركنا مع احتمال أن يكون الوعي أكثر تعقيداً وغرابة مما نتصور، وأن الموت قد لا يكون نهاية المطاف، بل مجرد تغيير في حالة الوجود. وكما حدث مع والد الممرضة، فإن شهادة واحدة صادقة ومباشرة يمكن أن تكون أقوى من سنوات من الشك، وتفتح الباب أمام إمكانية أن الحياة والموت أعظم وأكثر غموضاً مما نعتقد.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تعليمية وتثقيفية فقط، ولا يعتبر نصيحة طبية.