هل يمكن أن تكون الإجابة على العديد من الأمراض الحديثة، بما في ذلك السرطان وأمراض المناعة، مخبأة في أساليب الطهي القديمة التي توارثتها أجيالنا؟ في عالم يلهث وراء الحلول السريعة والأدوية المصنعة، قد يبدو أن العودة إلى المطبخ التقليدي خطوة إلى الوراء، ولكن العلم الحديث بدأ يكشف عن حكمة غذائية عميقة في الأطعمة المخمرة التي كانت أساس النظام الغذائي لأسلافنا. حمض اللاكتيك، أو الحمض اللبني، هو بطل هذه القصة المنسية، وهو مركب طبيعي ينتج عن طريق “البكتيريا الصديقة” التي قد تكون الحلقة المفقودة في صحتنا اليوم.
في حديث له على يوتيوب، تناول الدكتور محمد الفايد، الخبير في علوم التغذية، موضوع حمض اللاكتيك، ليس كمجرد مركب كيميائي، بل كحجر زاوية في نظام غذائي صحي متكامل قادر على تطهير الجسم، تقوية المناعة، وحتى المساهمة في كبح الأمراض الخطيرة.
ما هو حمض اللاكتيك؟ جيش من الحلفاء في أمعائك
أوضح الدكتور الفايد أن حمض اللاكتيك هو نتاج طبيعي لعملية التخمر التي تقوم بها “البكتيريا اللبنية” (Lactic Acid Bacteria - LAB). هذه الكائنات الحية الدقيقة، التي تُعرف اليوم باسم البروبيوتيك (Probiotics)، هي كائنات فريدة من نوعها في الطبيعة بقدرتها على تحويل السكريات، مثل الجلوكوز الموجود في الحليب أو الخضروات، إلى حمض اللاكتيك. هذا الحمض هو ما يعطي الأطعمة المخمرة مثل اللبن الرائب (الزبادي البلدي)، والزيتون المخلل، والخبز الحامض (الخميرة البلدية) نكهتها الحمضية المميزة.
هذه البكتيريا ليست مجرد كائنات عابرة، بل هي أساس ما يُعرف بـ “الميكروبيوم المعوي” (Gut Microbiome)، وهو النظام البيئي المعقد من الميكروبات التي تعيش في أمعائنا. يؤكد العلماء اليوم أن صحة هذا الميكروبيوم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بصحتنا العامة. أي خلل في توازن هذه البكتيريا يمكن أن يؤدي إلى سلسلة من المشاكل الصحية، بدءًا من ارتفاع الكوليسترول، مرورًا بأمراض المناعة الذاتية، ووصولًا إلى السرطان.
لكي تعيش هذه البكتيريا الصديقة وتزدهر، تحتاج إلى غذاء خاص بها يُعرف باسم البريبيوتيك (Prebiotics). يشير الدكتور الفايد إلى أن أهم مصادر البريبيوتيك هي سكر الإينولين (Inulin) والألياف الغذائية، والتي توجد بكثرة في نباتات مثل البطاطا القصبية (Jerusalem artichoke)، والبطاطa الحلوة، والقرع الأحمر (اليقطين)، واللفت.
قوة التخمير: من مطبخ الأجداد إلى مختبرات العلم
كانت عملية التخمير جزءًا لا يتجزأ من ثقافة الطعام في منطقة المغرب العربي وآسيا. فبينما اشتهرت دول آسيا بتخمير الأسماك وفول الصويا (لإنتاج صلصة الصويا والميزو)، برعت شعوب المغرب العربي في تخمير كل شيء تقريبًا:
- الحليب: لإنتاج اللبن البلدي والزبدة البلدية.
- الزيتون: الذي كان يُخمر طبيعيًا لشهور مع الملح فقط.
- الخضروات: مثل الخيار، الجزر، الفلفل، وحتى الثوم والبصل.
- العجين: لإنتاج الخبز بالخميرة البلدية، والذي يتميز بحموضته الطبيعية.
- الحساء: مثل “الحريرة الحامضة” التقليدية التي كانت تُخمر طبيعيًا قبل إضافة الدقيق.
هذه الأطعمة لم تكن مجرد وسيلة لحفظ الطعام، بل كانت مصدرًا غنيًا بحمض اللاكتيك والبروبيوتيك، مما جعلها “أغذية وظيفية” بامتياز.
الفوائد الصحية المذهلة لحمض اللاكتيك الغذائي
1. مطهر طبيعي للجهاز الهضمي: أكد الدكتور الفايد أن حمض اللاكتيك يعمل كمنظف ومطهر قوي للجهاز الهضمي. فهو يخلق بيئة حمضية (يخفض درجة الحموضة pH) تكبح نمو الجراثيم الضارة والمسببة للأمراض.
- دليل علمي: أظهرت العديد من الدراسات أن البكتيريا اللبنية ومستقلباتها (مثل حمض اللاكتيك) لها نشاط مضاد للميكروبات ضد مسببات الأمراض الشائعة. على سبيل المثال، وجدت مراجعة علمية (Review) نُشرت في مجلة Microorganisms عام 2019 أن البكتيريا اللbنية يمكنها تثبيط نمو بكتيريا مثل الإشريكية القولونية (E. coli)، والسالمونيلا (Salmonella)، والكلوستريديوم (Clostridium perfringens)، والمكورات العنقودية الذهبية (Staphylococcus aureus)، وهي المسؤولة عن معظم حالات التسمم الغذائي.
2. تحسين امتصاص المعادن والفيتامينات: واحدة من أهم النقاط التي أثارها الدكتور الفايد هي أن عملية التخمر اللاكتيكي تحرر المعادن والفيتامينات وتجعلها متاحة للامتصاص. الخبز المصنوع من الحبوب الكاملة، على سبيل المثال، يحتوي على حمض الفيتيك الذي يعيق امتصاص المعادن. لكن التخمر بالخميرة البلدية يكسر هذا الحمض، مما يحرر الكالسيوم، والمغنيسيوم، والحديد، والزنك. هذا يفسر لماذا لم تكن أمراض مثل هشاشة العظام وفقر الدم (الأنيميا) منتشرة في الماضي رغم بساطة الغذاء.
- دليل علمي: دراسة نُشرت في Journal of Food Science and Technology وجدت أن تخمير العجين بالخميرة البلدية (sourdough fermentation) يقلل بشكل كبير من محتوى حمض الفيتيك، مما يحسن التوافر البيولوجي للمعادن بشكل ملحوظ.
3. حل لمشكلة عدم تحمل اللاكتوز: كثير من الناس يعانون من عدم تحمل اللاكتوز (سكر الحليب)، مما يمنعهم من استهلاك الحليب. أوضح الدكتور الفايد أن هؤلاء الأشخاص غالبًا ما يمكنهم تناول اللبن المخمر دون مشاكل. السبب هو أن البكتيريا اللبنية تقوم بتكسير جزء كبير من اللاكتوز وتحويله إلى حمض اللاكتيك أثناء عملية التخمير.
4. دعم مرضى السكري والقلب: حمض اللاكتيك مفيد بشكل خاص لمرضى السكري. فهو لا يرفع سكر الدم، بل يساهم في تنشيط الجسم. كما أنه يساعد في تقليل تراكم الشحوم في الجسم والأعضاء، مما يدعم صحة القلب والشرايين ويقلل من مخاطر أمراض مثل النقرس (Gout).
حمض اللاكتيك والسرطان: نظام غذائي داعم وليس علاجًا
أثارت إحدى المتصلات سؤالًا مهمًا حول ما إذا كان حمض اللاكتيك يمكن أن يسبب السرطان، خاصة مع استخدامه في مستحضرات التجميل. نفى الدكتور الفايد هذا الأمر بشكل قاطع، بل وأوضح أن العكس هو الصحيح. الحموضة الطبيعية للأطعمة المخمرة تكبح السرطان ولا تشجعه. وأشار إلى أن الخلية السرطانية تزدهر في بيئة تفتقر إلى الأكسجين وتعتمد على السكر كمصدر أساسي للطاقة، بينما الأطعمة المخمرة تعزز بيئة صحية لا تناسب الخلية السرطانية.
وذكر الدكتور الفايد أن هناك أنظمة غذائية عالمية معروفة بدعم مرضى السرطان تعتمد بشكل كبير على الأطعمة المخمرة، مثل:
- نظام جوهانا بودويغ (Johanna Budwig Protocol): يركز على مزيج من زيت بذر الكتان والجبن القريش (الغني بالبروبيوتيك).
- نظام مورما (Morma Diet) وعلاج جيرسون (Gerson Therapy): أنظمة غذائية تعتمد على الخضروات العضوية والعصائر الطازجة والأطعمة المخمرة.
- نظام رودولف برويس (Rudolf Breuss): يعتمد على الصيام وتناول عصائر الخضروات والشاي.
توضيح هام: شدد الدكتور الفايد على أن هذه الأطعمة ليست “علاجًا” للسرطان، بل هي جزء أساسي من نظام غذائي داعم يجب أن يتبعه المريض بالتوازي مع العلاج الطبي. الهدف هو تقوية مناعة الجسم وتزويده بالعناصر الغذائية اللازمة لمحاربة المرض، وحرمان الخلية السرطانية من البيئة التي تنمو فيها.
- أدلة علمية: بدأت الأبحاث الحديثة تدعم هذه الفكرة. دراسة مخبرية (In vitro) نُشرت في Journal of Medicinal Food وجدت أن مستخلصات الكفير (لبن مخمر) أظهرت قدرة على تثبيط نمو خلايا سرطان الثدي بنسبة تصل إلى 56%. دراسات أخرى على الكيمتشي (ملفوف مخمر كوري) أظهرت نتائج مشابهة في المختبر. بينما لا تزال الأبحاث على البشر في بداياتها، إلا أن هذه النتائج الأولية واعدة وتتوافق مع آراء خبراء مثل الدكتور مارك هيمن (Dr. Mark Hyman) الذي يؤكد أن صحة الأمعاء هي مفتاح الوقاية من الأمراض المزمنة.
التفريق بين حمض اللاكتيك الغذائي وحمض اللاكتيك العضلي
من الضروري التمييز بين حمض اللاكتيك الذي نتناوله في الغذاء وذلك الذي ينتجه الجسم أثناء التمارين الرياضية الشاقة. أوضح الدكتور الفايد أن حمض اللاكتيك الذي يتراكم في العضلات أثناء المجهود البدني هو ناتج ثانوي لعملية الأيض اللاهوائي، وهو ما يسبب الشعور بالإرهاق والألم العضلي المؤقت. هذا النوع يزول مع الراحة ولا علاقة له بالفوائد الصحية لحمض اللاكتيك الموجود في الأطعمة المخمرة.
وجبة “السيكوك”: كنز غذائي منسي
تحدث الدكتور الفايد بحماس عن وجبة “السيكوك” المغربية التقليدية (كسكس الشعير أو الذرة مع اللبن الحامض) باعتبارها أفضل وجبة للأطفال والعمال. هذه الوجبة تجمع بين البروبيوتيك وحمض اللاكتيك من اللبن، والألياف والمعادن من النشويات الكاملة. هذا المزيج الفريد:
- يحرر المعادن: البكتيريا اللبنية في اللبن تساعد على تحرير الحديد والزنك والكالسيوم من الكسكس، مما يجعلها وجبة مثالية لنمو الأطفال وتقوية العظام.
- يعزز الطاقة والتحمل: كانت هذه الوجبة هي وقود الفلاحين والعمال، حيث تمنحهم طاقة مستدامة وقوة تحمل بفضل معدن المنغنيز الذي يقوي العضلات ويمنع الإرهاق العصبي.
- يعزز الشبع: حمض اللاكتيك يساهم في كبح هرمون الجوع “الجريلين”، مما يساعد على التحكم في الوزن ومنع السمنة.
الخلاصة: دعوة للعودة إلى الجذور
إن تراجع استهلاك الأطعمة المخمرة في حياتنا اليومية واستبدالها بالأطعمة المصنعة والمعقمة هو أحد الأسباب الرئيسية لانتشار أمراض الجهاز الهضمي، وضعف المناعة، ومشاكل التمثيل الغذائي. إن دعوة الدكتور الفايد هي دعوة لإحياء حكمة الأجداد، ليس من باب الحنين إلى الماضي، بل كضرورة صحية يؤكدها العلم الحديث. إن إعادة الخبز الحامض، واللبن البلدي، والمخللات الطبيعية إلى مائدتنا قد يكون أبسط وأقوى استثمار في صحتنا وصحة أطفالنا.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تثقifية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائمًا استشارة الطبيب قبل إجراء أي تغييرات على نظامك الغذائي أو العلاجي.