هل يمكن لشاب بدأ مساره من مركز تكوين مهني في المغرب أن يصل إلى قمة الهرم التكنولوجي ويعمل في شركة جوجل؟ قد يبدو الأمر ضربًا من الخيال، لكنها القصة الحقيقية للمهندس المغربي عبد الفتاح الصغيور، الذي انتقل من مدينة فاس إلى مكاتب جوجل في أوروبا. في حوار شيق، كشف الصغيور عن تفاصيل رحلته الملهمة، بدءًا من شغفه بالبرمجة في سن المراهقة، مرورًا بتحديات الدراسة والعمل في المغرب، وصولًا إلى كيفية اختياره من قبل جوجل، وتجربته داخل هذا الصرح التكنولوجي العملاق.
في هذا المقال، نستعرض قصة عبد الفتاح ونغوص في تحليله لمستقبل التكنولوجيا، خصوصًا الحوسبة السحابية (Cloud Computing) والذكاء الاصطناعي (AI)، مقدمًا نصائح ثمينة للشباب المغربي الطامح لدخول هذا المجال، سواء كَمُوَظَّفٍ في شركة كبرى أو كرائد أعمال يطلق مشروعه الخاص.
من شغف الطفولة إلى أبواب جوجل
في حديثه، يروي عبد الفتاح الصغيور أن رحلته مع التكنولوجيا بدأت في سن الرابعة عشرة عندما أهداه والده حاسوبًا، ليبدأ في تعلم لغة البرمجة C++ في سن الخامسة عشرة. كان فضوله هو دافعه الأساسي، حيث كان يقضي وقته في مقاهي الإنترنت للبحث والتعلم بدلًا من التسلية. بعد حصوله على شهادة البكالوريا بنقطة متواضعة (11/20)، لم يتمكن من الالتحاق بمدارس المهندسين الكبرى، فاتجه إلى التكوين المهني (ISTA) حيث درس الإلكترونيك والبرمجة.
لم يكتفِ بدبلوم واحد، بل حصل على دبلوم ثانٍ في تطوير المعلوميات. بعد ذلك، وجد نفسه أمام خيارات محدودة، فقرر إكمال دراسته في مدرسة خاصة للهندسة (L’ISGA). خلال هذه الفترة، حرص على أن يكون نشطًا في المجتمع التقني، حيث كان يحضر المؤتمرات واللقاءات، مما ساعده على بناء شبكة علاقات (Networking) سهلت عليه الحصول على تدريب نهاية الدراسة وأول وظيفة رسمية له في المغرب كمهندس في مركز بيانات (Data Center).
المنعطف الحاسم في مسيرته كان عندما تلقى بريدًا إلكترونيًا من مسؤول توظيف في شركة جوجل. في البداية، لم يصدق الأمر واستغرق أسبوعًا للرد. كانت جوجل تبحث عن مهندس للعمل في مركز بياناتها في بلجيكا، وكان ملف عبد الفتاح على منصة “لينكدإن” (LinkedIn) مطابقًا للمواصفات المطلوبة، حيث كان عنوانه الوظيفي “Data Center Engineer” وخبرته في هذا المجال واضحة. يوضح عبد الفتاح أن الشركات الكبرى تستخدم أداة خاصة تسمى “LinkedIn Recruiter” للبحث عن مرشحين بمواصفات دقيقة، دون أن يظهر ذلك للمستخدم العادي.
رحلة المقابلات والراتب المثير للدهشة
يصف عبد الفتاح عملية التوظيف في جوجل بأنها كانت طويلة وصعبة، حيث تضمنت ست مقابلات: اثنتان عبر الهاتف وأربع مقابلات شخصية في بلجيكا في يوم واحد. كانت المقابلات تقنية بالدرجة الأولى، تهدف إلى اختبار معرفته العميقة في مجالات مثل أنظمة لينكس والشبكات، بالإضافة إلى مقابلة مع المدير لتقييم شخصيته وقدرته على الاندماج في الفريق. من بين الأسئلة التي يتذكرها جيدًا سؤال سلوكي: “لديك ميزانية 3000 يورو وفريق من 10 أشخاص، كيف ستنظم لهم نشاطًا ترفيهيًا خارج المكتب (Offsite)؟”.
بعد اجتياز المقابلات بنجاح، تلقى عرضًا براتب سنوي إجمالي (Brut) قدره 60,000 يورو. يوضح عبد الفتاح أن هيكل الرواتب في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل جوجل (التي تُعرف ضمن مجموعة FAANG) يتكون من ثلاثة أجزاء رئيسية:
- الراتب الأساسي (Base Salary): المبلغ الثابت الذي تتقاضاه.
- المكافأة السنوية (Bonus): نسبة مئوية من الراتب الأساسي (كانت في حالته 15%) تعتمد على أدائك السنوي.
- الأسهم (Stocks/RSUs): الجزء الأكثر إغراءً. تُمنح للموظف على شكل وعد بعدد معين من الأسهم (مثلاً 40 سهمًا) يتم تسليمها على مدى أربع سنوات، بمعدل ربع الكمية كل عام. هذه العملية تسمى “Vesting”، وهي طريقة تستخدمها الشركات لضمان بقاء الموظفين الموهوبين لأطول فترة ممكنة.
تحديات الاندماج وثقافة العمل في أوروبا
لم تكن البداية سهلة. يحكي عبد الفتاح عن الصعوبات التي واجهها في الاندماج، خاصة كونه “شخصًا أسمر” (Brown Person) قادمًا من المغرب إلى بيئة أوروبية. من أبرز المواقف التي يتذكرها، عندما اتهمه أحد زملائه البلجيكيين بأنه “يطير” (بمعنى أنه طموح جدًا ومتسرع في التعلم). اكتشف لاحقًا أن ثقافة الفريق كانت تقتضي أن يقوم الموظفون الجدد بالأعمال الشاقة (Grunt Work) كنوع من إثبات الذات، وهو ما لم يكن عبد الفتاح على دراية به. لكن مع مرور الوقت، تمكن من تجاوز هذه الصعوبات وبناء علاقات جيدة مع زملائه.
من الحوسبة السحابية إلى الذكاء الاصطناعي: رؤية من الداخل
يشغل عبد الفتاح حاليًا منصب “مطور مناصر” (Developer Advocate) في “جوجل كلاود” (Google Cloud). يتمثل دوره في تبسيط وشرح التقنيات المعقدة للمطورين، من خلال إنشاء محتوى تعليمي، وتقديم محاضرات، وبناء أمثلة عملية.
ما هي الحوسبة السحابية (Cloud) وكوبرنيتيس (Kubernetes)؟
يشرح عبد الفتاح مفهوم الحوسبة السحابية بطريقة مبسطة، مقارنًا إياها بشبكة الكهرباء. فبدلًا من أن تشتري مولّدًا كهربائيًا خاصًا بك (استثمار أولي كبير، صيانة مستمرة)، يمكنك ببساطة الاشتراك في خدمة الكهرباء العمومية ودفع فاتورة شهرية مقابل ما تستهلكه فقط. هذا هو تمامًا الفرق بين امتلاك خوادم خاصة (On-premise) واستخدام الحوسبة السحابية. يتفق هذا التشبيه مع التعريف الرسمي للمعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا (NIST) الذي يصف الحوسبة السحابية بأنها “نموذج لتمكين الوصول الشبكي المريح وعند الطلب إلى مجموعة مشتركة من موارد الحوسبة القابلة للتكوين”.
أما “كوبرنيتيس”، فهو نظام مفتوح المصدر (Open Source) أطلقته جوجل في الأصل، وهو مبني على نظام داخلي لديها يسمى “Borg”. وظيفته هي إدارة وتشغيل التطبيقات الموزعة على نطاق واسع (Container Orchestration)، مما يسهل على المطورين نشر تطبيقاتهم وتوسيعها دون القلق بشأن إدارة الخوادم الأساسية.
مستقبل الذكاء الاصطناعي: هل سيحل محل المطورين؟
يثير عبد الفتاح نقطة مهمة حول الذكاء الاصطناعي، مؤكدًا أننا ما زلنا بعيدين جدًا عن “الذكاء الاصطناعي العام” (AGI)، وهو الوعي الاصطناعي الشبيه بالبشر. ما نملكه اليوم هو “نماذج لغوية كبيرة” (LLMs) مثل ChatGPT و Gemini، وهي أدوات قوية جدًا لكنها محدودة ببيانات التدريب التي تلقتها، وقد تنتج معلومات خاطئة أو “هلوسات” (Hallucinations). تؤكد دراسات عديدة، مثل بحث من جامعة ستانفورد، أن الهلوسة لا تزال تحديًا كبيرًا في هذه النماذج.
إذًا، هل يجب أن يخاف المطورون على وظائفهم؟ يجيب عبد الفتاح بالنفي. يرى أن الذكاء الاصطناعي لن يحل محل المطور، بل سيغير طبيعة عمله. المهام المتكررة والمملة (Boring Tasks) مثل كتابة الاختبارات الأولية (Unit Tests)، وتوثيق الكود، وإنشاء قوالب جاهزة، سيتم أتمتتها بواسطة الذكاء الاصطناعي. هذا سيسمح للمطور بالتركيز على الجزء الأكثر أهمية وإبداعًا: فهم منطق العمل (Business Logic) الخاص بالشركة وترجمته إلى حلول برمجية فعالة. يتفق معه في هذا الرأي خبراء بارزون مثل ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، الذي يرى أن الذكاء الاصطناعي سيعزز إنتاجية المطورين لا أن يلغيهم.
نصيحته للشباب هي: “احتضنوا الذكاء الاصطناعي (Embrace AI)”. تعلموا كيفية استخدامه كأداة لزيادة إنتاجيتكم وتسهيل عملكم.
نصائح ذهبية للشباب المغربي
يقدم عبد الفتاح مجموعة من النصائح العملية للشباب الطامحين في مجال التكنولوجيا:
-
ركز على الأساسيات (Fundamentals): التقنيات تتغير بسرعة، لكن الأساسيات (الشبكات، قواعد البيانات، أنظمة التشغيل، هياكل البيانات) تظل ثابتة. من يتقن الأساسيات يمكنه تعلم أي تقنية جديدة بسهولة.
- استغل الذكاء الاصطناعي بذكاء:
- لتخصيص السيرة الذاتية: استخدم أدوات مثل Gemini أو ChatGPT لتحليل وصف وظيفة معينة وتعديل سيرتك الذاتية لتناسبها تمامًا.
- للمساعدة في البرمجة: استخدم محررات الكود المدعومة بالذكاء الاصطناعي مثل “Cursor” أو “GitHub Copilot” لتسريع عملية كتابة الكود.
- لإنشاء تطبيقات بسرعة: استكشف منصات مثل “Replit” التي تسمح لك بإنشاء تطبيقات كاملة من خلال وصف نصي بسيط، مما يسرع من تحويل الأفكار إلى نماذج أولية.
-
مفارقة كوبول (COBOL Paradox): يشارك عبد الفتاح فكرة مثيرة للاهتمام: “التكنولوجيا القديمة هي أفضل طريقة لضمان تقاعدك”. الأنظمة الحيوية في البنوك وشركات التأمين لا تزال تعمل بلغات برمجة قديمة جدًا مثل “كوبول”. ومع ندرة المطورين الذين يتقنون هذه اللغات، يصبح الطلب عليهم كبيرًا ورواتبهم مرتفعة. هذا ما حدث بالفعل خلال جائحة كوفيد-19 عندما احتاجت ولاية نيويورك بشكل عاجل إلى مطوري كوبول لإصلاح أنظمة إعانات البطالة القديمة.
- ريادة الأعمال مقابل الوظيفة: يرى عبد الفتاح أن الخيار شخصي ويعتمد على طموح كل فرد. الوظيفة توفر استقرارًا، لكن ريادة الأعمال، رغم صعوبتها ومخاطرها العالية (حيث تفشل معظم الشركات الناشئة)، تمنح فرصة لتحقيق تأثير أكبر. وينصح من يفكر في إطلاق شركة ناشئة (Startup) أن يركز على التسويق وحل مشكلة حقيقية في السوق، حتى لو كانت الفكرة مستوحاة من نموذج ناجح في الخارج وتم تكييفها مع السوق المحلي (Localization)، مثلما فعلت تطبيقات النقل في المغرب بتفعيل الدفع النقدي.
في الختام، تمثل قصة عبد الفتاح الصغيور مصدر إلهام قوي، وتثبت أن الشغف والمثابرة والتركيز على التعلم المستمر هي المفاتيح الحقيقية للنجاح في عالم التكنولوجيا سريع التغير، بغض النظر عن نقطة البداية.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء الخبير والدراسات المتاحة لأغراض تعليمية وتثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية أو مهنية.