ماذا لو قيل لك إن أفكارك وحدها تملك القدرة على جذب الثروة، الصحة، والنجاح إلى حياتك؟ هذا هو الوعد البراق الذي يقدمه “قانون الجذب”، وهو مفهوم اجتاح الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، وحوّل الكثيرين إلى “مدربين حياة” يروجون لهذه الفكرة كحقيقة مطلقة. لكن خلف الوعود البراقة والقصص الملهمة، تكمن حقيقة أكثر تعقيدًا وخطورة. في مقطع فيديو حديث على يوتيوب، تناول أحد المتحدثين هذه الظاهرة بالنقد والتحليل، كاشفًا عن الأسس الواهية التي يقوم عليها هذا القانون المزعوم، والأضرار النفسية والمادية التي قد يلحقها بالمؤمنين به.
في هذا التقرير، نستعرض النقاط الرئيسية التي أثارها المتحدث، معززة بالأدلة العلمية وآراء الخبراء، لنفصل بين الحقيقة والخرافة في عالم قانون الجذب.
ما هو قانون الجذب؟
قبل الخوض في تفاصيل النقد، من المهم فهم جوهر قانون الجذب. ببساطة، يقوم هذا القانون على فكرة أن “الشبيه يجذب شبيهه”. يعتقد أتباعه أن الأفكار والمشاعر الإنسانية تصدر “اهتزازات” أو “ترددات” طاقية في الكون. فإذا كانت أفكارك إيجابية ومليئة بالوفرة والنجاح، فإنك ستجذب إليك ظروفًا وأشخاصًا وفرصًا تتوافق مع هذا التردد الإيجابي. وعلى العكس، إذا كانت أفكارك سلبية وتدور حول الخوف والفشل والنقص، فإنك ستجذب المزيد من الأحداث السيئة إلى حياتك.
انتشر هذا المفهوم بشكل هائل بعد صدور كتاب وفيلم “السر” (The Secret) عام 2006، الذي قدم الفكرة لملايين الأشخاص حول العالم، مدعيًا أنها الحقيقة التي استخدمها أعظم المفكرين والناجحين عبر التاريخ، من أفلاطون إلى أينشتاين. يطلب من المؤمنين بهذا القانون أن يتخيلوا أهدافهم (سيارة فاخرة، شريك حياة مثالي، وظيفة الأحلام) كما لو أنها تحققت بالفعل، وأن يشعروا بمشاعر الامتنان والفرح المصاحبة لذلك، ليقوم الكون بدوره بترتيب الأحداث لتحقيق هذه الرغبات.
الواجهة “العلمية” الزائفة
أحد أهم أسباب انتشار قانون الجذب هو استخدامه لمصطلحات تبدو علمية، مما يمنحه هالة من المصداقية. كما أشار المتحدث في الفيديو، فإن استخدام كلمة “قانون” بحد ذاتها هو تلاعب مقصود، حيث يوحي بأنها حقيقة ثابتة لا تقبل الجدال، تمامًا مثل “قانون الجاذبية” في الفيزياء.
-
مفاهيم فيزيائية في غير محلها: كثيرًا ما يستشهد المروجون لهذا الفكر بمصطلحات من فيزياء الكم (Quantum Physics) مثل “الطاقة”، “الاهتزاز”، و”التردد” لوصف كيفية عمل الأفكار. لكن علماء الفيزياء يؤكدون أن هذا استخدام مضلل ومجتزأ من سياقه. فيزياء الكم تصف سلوك المادة والطاقة على المستوى الذري ودون الذري، ولا يوجد أي دليل علمي يربط بين الظواهر الكمومية والأفكار البشرية على المستوى الكلي (macroscopic level). عند البحث عن آراء الخبراء، نجد أن الفيزيائيين يرفضون هذا الربط بشكل قاطع. على سبيل المثال، يؤكد الدكتور كارلو روفيلي، وهو فيزيائي نظري بارز، أن ربط الوعي بفيزياء الكم هو من أشهر أشكال “العلم الزائف” (Pseudoscience). ويشير إلى أن التأثيرات الكمومية لا تعمل بالطريقة التي يصفها مروجو قانون الجذب في عالمنا اليومي.
-
تجربة بلورات الماء لماسارو إيموتو: من أشهر “الأدلة” التي يستشهد بها المؤمنون بقانون الجذب هي تجارب الباحث الياباني ماسارو إيموتو على بلورات الماء. ادعى إيموتو أنه إذا تم توجيه كلمات إيجابية (“حب”، “شكرًا”) إلى عينة من الماء قبل تجميدها، فإن بلورات الثلج الناتجة تكون جميلة ومتناسقة الشكل. أما إذا وُجهت لها كلمات سلبية (“كراهية”، “أنت غبي”)، فإن البلورات تتشكل بصورة مشوهة وقبيحة. كما ذكر المتحدث في الفيديو، هذه التجارب تفتقر إلى أبسط معايير البحث العلمي. لم يتم إجراؤها في ظروف مختبرية مضبوطة، ولم تخضع لـ “التعمية المزدوجة” (double-blind protocol) حيث لا يعرف الباحثون ولا المشاركون أي عينة تعرضت لأي مؤثر، وهو إجراء ضروري لتجنب التحيز. والأهم من ذلك، لم يتمكن أي فريق علمي مستقل من تكرار نتائج إيموتو. في عام 2003، عرض عليه جيمس راندي، المشكك العلمي الشهير، جائزة المليون دولار إذا تمكن من إثبات ادعاءاته في تجربة خاضعة للرقابة، لكن إيموتو رفض التحدي. على الرغم من دحضها علميًا، لا تزال هذه الفكرة تنتشر، حتى أنها استُخدمت في سياقات دينية، كما أشار المتحدث إلى ادعاء للداعية محمد العريفي حول تأثر الماء بالكلمات الطيبة.
سيكولوجية الإيمان بقانون الجذب
إذا كان القانون يفتقر إلى أساس علمي، فلماذا يؤمن به الملايين؟ الإجابة تكمن في عدة انحيازات معرفية (Cognitive Biases) وعوامل نفسية.
-
انحياز البقاء (Survivorship Bias): أشار المتحدث إلى هذه النقطة الهامة. نحن نركز على قصص المشاهير الناجحين الذين ينسبون نجاحهم إلى قانون الجذب، مثل أوبرا وينفري أو دنزل واشنطن، ونتجاهل مئات الآلاف، بل الملايين، من الأشخاص الذين آمنوا بنفس المبدأ ولم يحققوا شيئًا يُذكر. نحن نرى “الناجين” فقط، مما يخلق لدينا انطباعًا خاطئًا بأن الطريقة ناجحة. المتحدث طرح مثالًا وجيهًا: دنزل واشنطن فاز بجائزتي أوسكار، لكنه ترشح وخسر في ثماني مناسبات أخرى. فهل كان إيمانه بالقانون ضعيفًا في تلك المرات؟ وكذلك المقاتل كونور ماكغريغور، هل خسر أمام حبيب نورماغوميدوف لأنه لم “يجذب” الفوز بقوة كافية في ذلك اليوم؟ الحقيقة أن النجاح يعتمد على عوامل متعددة ومعقدة مثل الموهبة، العمل الجاد، المثابرة، الفرص، وشبكة العلاقات، وبالطبع، الحظ.
-
انحياز التأكيد (Confirmation Bias): يميل البشر إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم الحالية وتجاهل ما يناقضها. الشخص الذي يؤمن بقانون الجذب سيفسر أي حدث إيجابي عشوائي (مثل إيجاد موقف لسيارته في مكان مزدحم) على أنه دليل على قوة أفكاره، بينما سيتجاهل كل المرات التي لم يجد فيها موقفًا.
-
جاذبية السيطرة الوهمية: يقدم قانون الجذب وهمًا بالسيطرة الكاملة على الحياة. في عالم مليء بالفوضى وعدم اليقين، تبدو فكرة أنك تستطيع التحكم في مصيرك بمجرد تغيير أفكارك فكرة مغرية ومطمئنة للغاية.
الجانب المظلم والأضرار الحقيقية
بعيدًا عن كونه مجرد فكر إيجابي غير ضار، يحمل قانون الجذب في طياته مخاطر حقيقية على الصحة النفسية والجسدية.
-
لوم الضحية (Victim Blaming): هذه هي أخطر نتيجة منطقية لقانون الجذب. إذا كانت أفكارك الإيجابية تجذب الخير، فإن أفكارك السلبية تجذب الشر. هذا يعني أن أي شخص يعاني من مرض، أو فقر، أو عنف، أو أي مصيبة أخرى، هو المسؤول المباشر عن معاناته لأنه “جذبها” بأفكاره السلبية. المتحدث استشهد بمثال من محاضرات إبراهيم الفقي، أحد أشهر رواد التنمية البشرية في العالم العربي، حول تلقي مكالمة هاتفية في وقت متأخر من الليل. إذا توقعت خبرًا سيئًا، فأنت من تسببت في حدوثه. هذا المنطق لا يرحم، ويضع عبئًا هائلاً من الذنب والخزي على الأشخاص الذين يمرون بظروف صعبة خارجة عن إرادتهم. تخيل أن تقول لمريض سرطان أو لاجئ حرب أنه هو من جلب هذه الكارثة لنفسه.
-
الإيجابية السامة (Toxic Positivity): يفرض قانون الجذب على أتباعه ضرورة الحفاظ على حالة دائمة من الإيجابية وتجنب أي مشاعر “سلبية” مثل الحزن أو الغضب أو الخوف. هذا غير صحي وغير واقعي. المشاعر السلبية هي جزء طبيعي من التجربة الإنسانية، ولها وظائف هامة؛ فالخوف يحمينا من الخطر، والحزن يساعدنا على معالجة الفقد. قمع هذه المشاعر وتجاهلها يمكن أن يؤدي إلى ضغط نفسي هائل، قلق، اكتئاب، ومشاكل صحية أخرى. تشير الأبحاث في علم النفس، مثل دراسة من جامعة تورنتو نُشرت في مجلة Journal of Personality and Social Psychology، إلى أن قبول المشاعر السلبية بدلاً من تجنبها يرتبط بصحة نفسية أفضل على المدى الطويل.
-
التخلي عن العلاج الطبي: في أخطر تجلياته، يدعي بعض مروجي قانون الجذب أن التفكير الإيجابي وحده يمكن أن يشفي من أمراض خطيرة مثل السرطان. كما ورد في فيلم “السر”، هناك شهادات لأشخاص يزعمون أنهم شفوا من أمراض مميتة بقوة الفكر. هذا ادعاء خطير للغاية وغير مسؤول، وقد يدفع بعض المرضى إلى التخلي عن العلاجات الطبية المثبتة علميًا (مثل العلاج الكيميائي أو الجراحة) لصالح التفكير الإيجابي، مما قد يؤدي إلى وفاتهم. تؤكد جميع الهيئات الطبية المرموقة، مثل المعهد الوطني للسرطان في الولايات المتحدة، أنه لا يوجد دليل على أن التفكير الإيجابي يمكن أن يعالج السرطان، رغم أنه قد يساعد المرضى على التعامل مع ضغوط العلاج.
الاستغلال التجاري
كما أوضح المتحدث، فإن الرابح الأكبر من ظاهرة قانون الجذب هم “المدربون” والمؤلفون الذين يبيعون الكتب والدورات التدريبية باهظة الثمن، مستغلين يأس الناس ورغبتهم في تغيير حياتهم. بالإضافة إلى ذلك، أصبح قانون الجذب أداة رئيسية تستخدمها شركات التسويق الهرمي (MLM). يتم تلقين الأعضاء الجدد أن نجاحهم يعتمد كليًا على “عقليتهم” وقدرتهم على “جذب” الثروة. وعندما يفشل معظمهم (وهو مصير حتمي في نموذج التسويق الهرمي)، يتم إقناعهم بأن المشكلة تكمن فيهم، وأنهم لم يؤمنوا أو يتخيلوا النجاح بصدق كافٍ، مما يبقي اللوم بعيدًا عن الشركة ونموذج عملها الاحتيالي. المتحدث ذكر مثالاً من المغرب بشركة “SMS Academy” التي كانت تعد الناس بمبالغ ضخمة مقابل جلب أعضاء جدد، مستخدمةً خطاب قانون الجذب كأداة للسيطرة والإقناع.
الخلاصة: الأفعال لا الأفكار
في الختام، من الضروري التمييز بين التفكير الإيجابي الصحي وقانون الجذب كعلم زائف. التفاؤل، ووضع الأهداف، وتخيل النجاح (Visualization) هي أدوات نفسية مفيدة يمكن أن تزيد من الدافعية وتحسن الأداء. لكنها تعمل من خلال تحفيز السلوك والفعل، وليس عبر إرسال “ترددات” سحرية إلى الكون.
الكون لا يتأثر بأفكارنا أو رغباتنا، بل يستجيب لأفعالنا. سر النجاح الحقيقي لا يكمن في محاولة “جذب” الأهداف بالتفكير فقط، بل في السعي نحوها بالمثابرة، والعمل الجاد، والتعلم من الأخطاء، والصبر، وتقبل حقيقة أن الحياة مزيج من النجاح والفشل، الفرح والحزن. إن حلاوة الحياة تكمن في خوض تجاربها بكل ما فيها، واستغلال كل تجربة، سواء كانت ناجحة أو فاشلة، لتطوير أنفسنا والمضي قدمًا.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية أو نفسية. يجب دائمًا استشارة المتخصصين المؤهلين قبل اتخاذ أي قرارات تتعلق بصحتك.