هل يمكن لعقلك أن يخلق أعراض مرض حقيقي من العدم، ثم يمتلك القدرة على شفائها بنفسه؟ قد يبدو هذا كأنه ضرب من الخيال، ولكنه يمثل صميم أحد أكثر المواضيع إثارة للجدل والغموض في تاريخ الطب وعلم النفس: التنويم المغناطيسي. في مقطع فيديو حديث على يوتيوب، يستعرض أحد المتحدثين رحلة هذا المفهوم المذهلة، كاشفًا عن قدرات العقل الباطن الهائلة وتأثيرها المباشر على الصحة والمرض، ومحذرًا في الوقت ذاته من المخاطر الكامنة في استخدامه دون فهم عميق.
في حديثه، يغوص المتحدث في تاريخ هذه الممارسة، التي بدأت قبل أكثر من قرنين، ليفسر كيف يمكن لحالة من التركيز العميق أن تفتح أبوابًا إلى منطقة غامضة في النفس البشرية، منطقة قادرة على التحكم في وظائف الجسم بطرق لا تزال العلوم الحديثة تسعى لفهمها بالكامل.
الجذور التاريخية: من “الأثير” إلى “المغناطيسية الحيوانية”
يبدأ المتحدث رحلته التاريخية بالعودة إلى القرن الثامن عشر، وهو عصر شهد تزاوجًا فريدًا بين العلوم الناشئة والأفكار الميتافيزيقية القديمة. في ذلك الوقت، كانت نظرية “الأثير” (Aether) التي وضعها العالم العبقري السير إسحاق نيوتن، تهيمن على الفكر العلمي. افترض نيوتن أن الكون مغمور بسائل غير مرئي أسماه “الأثير”، وهو وسط يتخلل كل شيء، بما في ذلك أجسادنا وعقولنا، ويعمل كقناة تنتقل عبرها التأثيرات المختلفة، مثل اتصال المخ بالأعصاب.
من رحم هذه الفكرة، ظهر طبيب نمساوي مثير للجدل يُدعى فرانز أنطون ميسمر (Franz Anton Mesmer). كان ميسمر، كما يوضح المتحدث، شغوفًا بـ “علوم الأسرار” (Occult Sciences) وسعى إلى دمجها مع الطب التقليدي. في عام 1779، طرح نظريته التي أطلق عليها اسم “المغناطيسية الحيوانية” (Animal Magnetism)، والتي زعمت وجود قوة مغناطيسية طبيعية كامنة في الكائنات الحية. وفقًا لميسمر، يمكن للمعالج أن يوجه هذه الطاقة عبر “الأثير” لشفاء المرضى عن طريق إعادة توازن “السوائل” المغناطيسية في أجسادهم.
انتقل ميسمر إلى باريس وأسس صالونًا علاجيًا أصبح حديث المدينة. يصف المتحدث جلساته بأنها كانت مزيجًا من الدراما والتأثيرات المسرحية والنفسية، حيث كان يجمع المرضى حول حوض خشبي مملوء بالماء والحديد الممغنط، ويستخدم الموسيقى والإضاءة الخافتة لخلق جو غامض. كان يهدف إلى إيصال مرضاه إلى حالة من “الأزمة” (Crisis)، تتسم بالتشنجات أو الهستيريا، والتي كان يعتقد أنها ضرورية لطرد المرض. وقد حققت طريقته نجاحًا ملحوظًا في شفاء العديد من الحالات، مما أكسبه شهرة واسعة.
ولكن، كما يشير المتحدث، لم يدم هذا النجاح طويلاً. في عام 1784، شكل الملك لويس السادس عشر لجنة ملكية للتحقيق في ادعاءات ميسمر. ضمت هذه اللجنة نخبة من ألمع عقول العصر، من بينهم العالم الكيميائي أنطوان لافوازييه والمخترع والسياسي الأمريكي بنجامين فرانكلين. بعد دراسة دقيقة، خلصت اللجنة إلى أن “المغناطيسية الحيوانية” لا وجود لها، وأن حالات الشفاء التي حققها ميسمر كانت نتيجة “للخيال” (Imagination) و”الإيحاء” (Suggestion) والتأثير النفسي القوي الذي كان يمارسه على مرضاه. على الرغم من أن هذا التقرير دحض نظرية ميسمر، إلا أنه فتح الباب أمام فهم جديد: قوة العقل في التأثير على الجسد.
ولادة “التنويم”: قوة الإيحاء والعقل الباطن
بعد حوالي ستين عامًا من تقرير اللجنة الفرنسية، أعيد إحياء الاهتمام بهذه الظاهرة على يد جراح إنجليزي يُدعى جيمس بريد (James Braid). كان بريد هو من صاغ مصطلح “التنويم” (Hypnotism) اشتقاقًا من الكلمة اليونانية “Hypnos” التي تعني “النوم”. لاحظ بريد أن التركيز الشديد على شيء لامع يمكن أن يُدخل الشخص في حالة شبيهة بالغيبوبة، وأدرك أن هذه الحالة لا علاقة لها بالمغناطيسية، بل هي حالة نفسية بحتة تعتمد على التركيز والإيحاء.
يوضح المتحدث أن جوهر عملية التنويم يكمن في علاقة ثقة بين المنوِّم (Hypnotist) والوسيط (Subject). يقوم المنوِّم بإرشاد الوسيط إلى حالة من الاسترخاء العميق والتركيز الداخلي، مبتعدًا عن حالة التشتت الذهني المعتادة. في هذه الحالة، يصبح العقل أكثر تقبلاً للإيحاءات. على سبيل المثال، قد يقول المنوِّم: “جفونك ثقيلة جدًا، أنت تشعر بالنعاس الشديد”، فيشعر الوسيط بذلك فعلًا.
لكن المعجزة الحقيقية، كما يؤكد المتحدث، لا تكمن في قوة المنوِّم، بل في قوة عقل الوسيط نفسه. المنوِّم هو مجرد “مُيسِّر” يخلق الظروف المناسبة للوسيط للوصول إلى قدراته الكامنة. القوة الفاعلة التي تجعل الوسيط لا يشعر بوخز إبرة، أو يسترجع ذكريات طفولة منسية، أو يرى أحلامًا موجهة، هي قوة العقل الباطن (Subconscious Mind) للوسيط.
تدعم الأبحاث العلمية الحديثة هذه الفكرة. أظهرت دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أن حالة التنويم ترتبط بتغيرات مميزة في نشاط الدماغ. على سبيل المثال، وجدت دراسة مراجعة نشرت في مجلة Neuroscience & Biobehavioral Reviews عام 2017 أن التنويم يقلل من النشاط في “شبكة الوضع الافتراضي” (Default Mode Network)، وهي منطقة في الدماغ تكون نشطة عندما يكون العقل في حالة تشتت أو شرود. في المقابل، يزداد الاتصال بين القشرة الجبهية الأمامية ( المسؤولة عن التحكم التنفيذي) و”العزل” (Insula)، وهي منطقة تلعب دورًا في تكامل العقل والجسم. يرى خبراء مثل الدكتور ديفيد شبيغل (Dr. David Spiegel) من جامعة ستانفورد، أن التنويم هو حالة من “التركيز الشديد المصحوب بالانفصال”، حيث يتمكن الشخص من تعليق حكمه المعتاد والتركيز بعمق على فكرة أو إيحاء معين.
“المنطقة الحاكمة”: حين يتحكم العقل في الصحة والمرض
يصل المتحدث إلى النقطة الأكثر عمقًا في تحليله: التنويم يقترب من “منطقة حاكمة” في النفس البشرية أو العقل الباطن. هذه المنطقة، حسب وصفه، هي التي تهيمن على ظواهر الصحة والمرض، بل ويمكنها “فبركة” الأعراض الجسدية. هذا المفهوم يُعرف في الطب الحديث باسم الاضطرابات النفسية الجسدية (Psychosomatic Disorders)، حيث تسبب الصدمات النفسية والتوتر والقلق أعراضًا جسدية حقيقية لا يمكن تفسيرها بوجود مرض عضوي.
هذه الفكرة ليست غريبة على الأنظمة الطبية التقليدية. ففي الطب الصيني التقليدي (TCM)، يُعتقد أن “تشي” (Qi) أو طاقة الحياة تتدفق في الجسم، وأن أي اضطراب عاطفي يمكن أن يعرقل هذا التدفق ويسبب المرض. وفي الأيورفيدا (Ayurveda)، النظام الطبي الهندي القديم، يُنظر إلى العقل والجسد كوحدة متكاملة، وتُعتبر الحالة الذهنية عاملاً أساسيًا في الصحة. كما أن ممارسات مثل اليوجا (Yoga)، وخاصة “يوجا نيدرا” (Yoga Nidra) التي تشبه حالة التنويم الموجه، تهدف إلى تحقيق الانسجام بين العقل والجسد لتعزيز الشفاء.
يدعم العلم الحديث هذه العلاقة القوية بين العقل والجسد من خلال دراسة تأثير الدواء الوهمي (Placebo Effect) والنوسيبو (Nocebo Effect). تأثير الدواء الوهمي يحدث عندما يشعر المريض بتحسن لمجرد اعتقاده بأنه يتلقى علاجًا فعالاً (حتى لو كان حبة سكر). على العكس، تأثير النوسيبو يحدث عندما تظهر على الشخص أعراض جانبية سلبية لمجرد توقعه حدوثها. مراجعة شاملة نشرت في The Lancet تؤكد أن هذه التأثيرات حقيقية وقابلة للقياس، وتنتج عن تغيرات بيوكيميائية في الدماغ، مثل إفراز الإندورفينات (مسكنات الألم الطبيعية). التنويم، في جوهره، هو وسيلة قوية لتسخير هذه القدرة الذاتية للعقل على الشفاء أو حتى إحداث المرض.
الإمكانيات العلاجية وحدودها الصارمة
بناءً على هذا الفهم، يحدد المتحدث بدقة مجال عمل التنويم المغناطيسي. فهو فعال بشكل خاص في علاج الأمراض التي تنشأ من “الوهم” أو الصدمات النفسية، أي الاضطرابات النفسية الجسدية. ويقدم مثالاً واضحًا: يمكن للتنويم أن يشفي التبول اللاإرادي لدى طفل إذا كان سببه صدمة نفسية، ولكنه لن يكون فعالاً إذا كان السبب هو التهاب عضوي في المثانة.
وقد أثبتت الأبحاث السريرية فعالية العلاج بالتنويم في مجالات محددة. فقد وجدت مراجعة منهجية وتحليل تلوي (Meta-analysis) لـ 13 دراسة أن العلاج بالتنويم يخفف بشكل كبير من أعراض متلازمة القولون العصبي (IBS). كما توصي به جمعيات طبية مرموقة، مثل الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA)، كعلاج مساعد فعال لإدارة الألم المزمن، والقلق، والرهاب.
لكن المتحدث يشدد بقوة على أن التنويم ليس علاجًا لكل داء. فهو لا يستطيع معالجة الأمراض العضوية التي حدث فيها تلف جسدي حقيقي، مثل الإيدز، أو السل، أو السرطان. إن الادعاء بخلاف ذلك هو نوع من الدجل الخطير.
الخطر الأكبر: عندما يمارس الهواة “الطب”
وهنا يصل المتحدث إلى تحذيره الأهم والأكثر خطورة: يجب أن يقتصر استخدام التنويم المغناطيسي كأداة علاجية على الأطباء المؤهلين. ويشرح السبب بمنطق لا يقبل الجدل: الشخص غير المؤهل قد ينجح في تخفيف عرض مرضي، لكنه قد يغفل عن السبب الحقيقي الكامن وراءه، مما يؤدي إلى كارثة.
يقدم المتحدث مثالين مرعبين:
- مريض يشتكي من مغص في البطن. قد ينجح المنوِّم غير الطبيب في إزالة الألم بالإيحاء، لكن ماذا لو كان هذا المغص ناتجًا عن التهاب الزائدة الدودية؟ سيتأخر التشخيص، وقد تنفجر الزائدة، مما يؤدي إلى وفاة المريض.
- مريض يعاني من صداع حاد وزغللة في النظر. قد يحاول المنوِّم الهاوي علاجه بالتنويم، بينما الطبيب الحقيقي سيتعرف فورًا على هذه الأعراض كعلامات محتملة لارتفاع الضغط داخل الجمجمة. سيطلب فحصًا لقاع العين، وقد يكتشف وجود ورم في المخ، مما ينقذ حياة المريض.
لهذا السبب، يصر المتحدث على أن من يمارس العلاج بالتنويم يجب أن يكون طبيبًا بشريًا درس التشريح والطب، وحصل على تخصص في الأمراض النفسية. يجب أن يكون قادرًا على التمييز بين ما هو نفسي (Psycho) وما هو جسدي (Somatic) ليقدم التشخيص الصحيح أولاً، ثم يقرر ما إذا كان التنويم أداة مناسبة أم لا.
كما يسارع المتحدث إلى تفنيد خرافة أخرى شائعة، وهي استخدام التنويم لمعرفة المستقبل أو التنبؤ بالغيب، مؤكدًا أن هذا “دجل من أوله لآخره” ولا أساس له من الصحة.
خاتمة: في أنفسكم أفلا تبصرون
في نهاية حديثه، يلخص المتحدث الفكرة الجوهرية: الأهمية الكبرى للتنويم المغناطيسي لا تكمن فقط في قدراته العلاجية المحدودة، بل في كونه نافذة تطل على سر من أعمق أسرار النفس البشرية. إنه يكشف عن وجود “منطقة حاكمة” في عقولنا، قادرة على التأثير في صحتنا ومرضنا بطرق تفوق فهمنا الحالي.
يختتم المتحدث بتأمل عميق مستشهدًا بالآية القرآنية: “وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ” (سورة الذاريات، الآية 21). هذه الآية، في سياق الحديث، تبدو كدعوة مفتوحة لاستكشاف هذا الكون المجهول داخلنا، والتعرف على الكنوز والقدرات الهائلة التي أودعها الله في النفس البشرية، والتي ما زلنا نخدش سطحها بالكاد.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائمًا استشارة الطبيب المختص قبل اتخاذ أي قرارات تتعلق بصحتك.