ماذا لو كانت هناك حياة بعد الموت حقًا؟ سؤال لطالما حير الفلاسفة والعلماء وعامة الناس على مر العصور. في حديث شيق ومثير للتفكير، يقدم المؤلف والباحث جون بورك، الذي قضى قرابة 40 عامًا في دراسة تجارب الاقتراب من الموت (Near-Death Experiences - NDEs)، رؤى مذهلة قد تغير فهمنا للحياة والموت وما بينهما. بعد دراسة وتحليل ما يقرب من 1500 حالة لأشخاص ماتوا إكلينيكيًا ثم عادوا إلى الحياة، يكشف بورك عن وجود أنماط مشتركة ومذهلة في شهاداتهم، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية أو الدينية، مما يطرح أدلة قوية على أن الوعي قد يستمر بعد توقف وظائف الدماغ.
الوعي خارج الجسد: أدلة تتحدى التفسيرات المادية
في نقاشه، يتناول جون بورك، مؤلف كتابي “تخيل الجنة” (Imagine Heaven) و”تخيل إله الجنة” (Imagine the God of Heaven)، رحلته الشخصية من مهندس متشكك وملحد إلى باحث مقتنع بوجود حياة أخرى. يوضح بورك أن تجارب الاقتراب من الموت تحدث عندما يموت الشخص سريريًا (توقف القلب والتنفس ونشاط الدماغ) ثم يتم إنعاشه. المثير للدهشة هو أن هؤلاء الأشخاص يروون تجارب واعية ومفصلة حدثت لهم خلال فترة موتهم الظاهري.
أحد أقوى الأدلة التي يقدمها بورك هو ما يُعرف بـ “الإدراك الحقيقي” (Veridical Perception)، حيث يتمكن الشخص من وصف أحداث وتفاصيل دقيقة وقعت في محيطه المادي أثناء توقف دماغه عن العمل. يروي بورك قصة امرأة تدعى ماري توفيت أثناء الولادة في لندن، والتي وصفت بعد عودتها للحياة رؤيتها لملصق أحمر على الجانب العلوي من مروحة السقف في غرفة العمليات. بعد فحص الممرضات، تم تأكيد وجود الملصق تمامًا كما وصفته.
هذه ليست مجرد حكايات فردية. يشير بورك إلى دراسة أجرتها الدكتورة جان هولدن (Dr. Jan Holden) من جامعة شمال تكساس، والتي حللت ما يقرب من 100 حالة من تجارب الاقتراب من الموت. وجدت الدراسة أن 92% من الملاحظات التي أبلغ عنها المرضى والتي أمكن التحقق منها كانت دقيقة تمامًا، و6% كانت دقيقة في معظمها، و2% فقط كانت غير دقيقة. وقد نُشرت دراسات حول هذه الظاهرة في مجلات طبية مرموقة مثل “ذا لانسيت” (The Lancet) و”مجلة الجمعية الطبية الأمريكية” (Journal of the American Medical Association)، مما دفع العديد من الأطباء المتشككين إلى الاعتراف بوجود ظاهرة حقيقية تستدعي البحث.
الدليل الثاني المذهل هو قدرة المكفوفين منذ الولادة على الإبصار لأول مرة خلال تجاربهم. يروي بورك قصة فيكي، التي وُلدت كفيفة، وتعرضت لحادث سيارة في عمر 22 عامًا. أثناء الجراحة، وجدت نفسها تطفو فوق جسدها “وترى” المشهد الفوضوي في الأسفل لأول مرة في حياتها. بعد عودتها، لم تتمكن من الرؤية مجددًا، لكنها وصفت تفاصيل بصرية دقيقة تتوافق مع شهادات المبصرين. وقد وثّق باحثون آخرون، مثل الدكتور كينيث رينغ (Dr. Kenneth Ring)، حالات مماثلة في كتابه “البصيرة في الظلام” (Mindsight). هذه الظاهرة تتحدى بشكل مباشر التفسير القائل بأن هذه التجارب هي مجرد هلاوس ناتجة عن نشاط الدماغ المحتضر، فكيف يمكن لدماغ لم يختبر الإبصار قط أن ينتج صورًا بصرية متماسكة وواقعية؟
الرحلة إلى العالم الآخر: قواسم مشتركة عالمية
على الرغم من تفرد كل تجربة، يحدد بورك حوالي 40 سمة مشتركة تتكرر في شهادات الناس من جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن معتقداتهم السابقة. تبدأ الرحلة عادةً بـ:
- الانفصال عن الجسد (Out-of-Body Experience): يشعر الشخص بأنه يخرج من جسده المادي، ويطفو فوقه، ويشاهد ما يحدث حوله بوعي كامل.
- النفق أو البوابة: يصف الكثيرون انتقالهم عبر نفق أو بوابة، أحيانًا مظلمة وأحيانًا مليئة بالضوء.
- النور الإلهي: يصلون إلى مكان يغمره نور مبهر، لا يشبه أي ضوء أرضي. هذا النور ليس مجرد طاقة، بل هو كيان واعٍ يشع حبًا غير مشروط ومعرفة مطلقة. يصفه الكثيرون بأنه “إله النور”.
- لجنة الترحيب: غالبًا ما يتم استقبالهم من قبل أحباء توفوا قبلهم، مثل الأجداد أو الأصدقاء، الذين يظهرون في أفضل مراحل شبابهم وصحتهم (عادة في أواخر العشرينات أو أوائل الثلاثينات).
- مشاهد طبيعية خلابة: يصفون أماكن ذات جمال فائق، مثل حدائق غناء وأنهار وجبال، حيث يبدو كل شيء أكثر حيوية وواقعية من عالمنا. المثير للاهتمام أن النور والحب والحياة تبدو وكأنها تنبع من كل شيء: من العشب والأشجار والزهور.
هذه التجربة للضوء كحب وحياة هي شهادة متسقة حتى بين المكفوفين، الذين لم يكن لديهم أي مفهوم مسبق يربط بين الضوء والحب. يربط بورك هذه الشهادات بنصوص دينية قديمة، مثل ما ورد في سفر إشعيا في العهد القديم ورؤيا يوحنا في العهد الجديد، التي تصف السماء بأن نورها هو مجد الله نفسه.
مراجعة الحياة: الدرس الأهم
واحدة من أكثر التجارب تأثيرًا وعمقًا هي “مراجعة الحياة” (Life Review). في حضور “إله النور”، يعيش الشخص حياته بأكملها مرة أخرى في عرض بانورامي ثلاثي الأبعاد. لكن الأمر لا يقتصر على المشاهدة، بل يتعداه إلى إعادة التجربة بكل أبعادها. لا يرى الشخص أفعاله فحسب، بل يشعر بتأثيرها الكامل على الآخرين. إذا قام بعمل لطيف، فإنه يشعر بالفرح الذي أحدثه في قلب الشخص الآخر. وإذا تسبب في أذى، فإنه يشعر بالألم الذي سببه.
يروي بورك قصة أستاذ جامعي ملحد يدعى هوارد ستورم، الذي رأى خلال مراجعته لحياته كيف أن لفتة بسيطة من اللطف تجاه أخته الصغيرة وهي حزينة أحدثت فرحًا هائلاً في العالم الروحي. في المقابل، شعر بألم عميق عندما رأى كيف أن أفكاره القاسية وغير المبالية تجاه أحد طلابه كانت بمثابة “طعنة في قلب المسيح”.
الرسالة الأساسية التي يعود بها الجميع من هذه المراجعة هي أن الحب وكيفية تعاملنا مع بعضنا البعض هو ما يهم أكثر من أي شيء آخر. كل فعل صغير من اللطف له أهمية أبدية ويخلق تأثيرًا متسلسلًا من الخير. وهذا يتوافق مع ما قاله المسيح عن أعظم الوصايا: “أحب الرب إلهك من كل قلبك… وأحب قريبك كنفسك”.
تجارب عبر الأديان: هل هو نفس الإله؟
من أكثر الجوانب إثارة للجدل في أبحاث بورك هو أن هذه التجارب تبدو متسقة عبر مختلف الأديان والثقافات. يروي قصصًا لأشخاص من خلفيات إسلامية وهندوسية وملحدة مروا بنفس التجربة الأساسية.
- قصة من إيران: امرأة مسلمة من عائلة مرموقة، قريبة للنبي محمد، تعرضت لنوبة قلبية. بعد أن خرجت من جسدها، كانت تنتظر أن يحاسبها الإمام علي، كما تعتقد الشيعة. بدلاً من ذلك، ظهر لها “رجل من نور” ضخم وقال لها: “أنا هو الذي هو” (I am he who is)، وهي عبارة ترتبط في العهد القديم بتعريف الله لنفسه لموسى. هذه التجربة قادتها في النهاية إلى اعتناق المسيحية.
- قصة من رواندا: إمام مسلم يدعى سويدك، مات بسبب سرطان الدم. بعد تجربة أولية مروعة تشبه الجحيم، ظهر له رجل من نور بملابس بيضاء وشعر طويل ولحية، ورأى ثقوبًا في يديه، فعرف أنه المسيح الذي شاهده في فيلم “آلام المسيح”. قال له المسيح: “لقد مت من أجل البشرية، وأنت من بينهم”. عاد سويدك إلى الحياة ليجد أهله يحفرون قبره، وتحولت حياته تمامًا.
- قصة من الهند: طبيب تخدير هندوسي يدعى الدكتور راجي بارثي، كان ملحدًا وماديًا ومدمنًا على المواد الأفيونية. بعد أن مات بسبب تعفن الدم، مر بتجربة جحيمية ثم صرخ طالبًا المغفرة. أنقذه ملاكان وأخذاه إلى “إله النور”، حيث خضع لمراجعة حياته التي غيرته جذريًا. لاحقًا، خرج من النور رجل عرف نفسه بأنه “يسوع، مخلصك”.
يشير بورك إلى أن هذه الشهادات من أتباع ديانات أخرى، والذين لم تكن لديهم توقعات مسبقة بلقاء المسيح، تضفي مصداقية على فكرة أن هذا الكيان النوراني هو نفسه الذي عرفه المسيحيون. ويرى أن هذا يتوافق مع فكرة أن الله هو “إله كل الأمم”، وليس إلهًا قبليًا، وهي فكرة موجودة منذ العهد القديم.
الدروس المستفادة من حافة الموت
عندما يعود الأشخاص من هذه التجارب العميقة، تتغير حياتهم بشكل جذري. يلخص بورك أهم التحولات في نقطتين:
- تراجع المادية والخوف من الموت: يفقد السعي وراء الشهرة والثروة والممتلكات أهميته. يصبح التركيز على العلاقات والحب والخدمة. كما يختفي الخوف من الموت تمامًا، ويحل محله يقين بوجود استمرارية للحياة.
- زيادة التركيز على الحب والخدمة: يدرك العائدون أن الغرض الحقيقي من الحياة ليس تحقيق النجاح الشخصي، بل هو أن نكون قنوات للحب والخير في العالم. كل فعل، مهما كان صغيرًا، له قيمة أبدية.
في النهاية، يقدم جون بورك من خلال أبحاثه وشهادات الآلاف منظورًا مقنعًا بأن الحياة لا تنتهي عند الموت الجسدي. سواء اتفق المرء مع تفسيراته اللاهوتية أم لا، فإن هذه التجارب تقدم دعوة قوية لإعادة تقييم أولوياتنا والتركيز على ما هو جوهري حقًا: الحب الذي نقدمه، واللطف الذي نظهره، والأثر الإيجابي الذي نتركه في حياة الآخرين.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تعليمية وتثقيفية فقط، ولا يعتبر نصيحة طبية.