هل يقتصر كلام الله واتصاله على الأنبياء والرسل؟ يعتقد الكثيرون أن الوحي هو معجزة خاصة بالأنبياء، وأن الاتصال المباشر مع الخالق هو امتياز انتهى بختم الرسالات. لكن ماذا لو كان الاتصال الإلهي ظاهرة كونية أوسع وأشمل، تمتد لتشمل كل ذرة في الوجود، من النملة الصغيرة في جحرها، إلى النحلة التي تجمع الرحيق، وصولًا إلى المجرات السحيقة في الفضاء الفسيح؟
في مقطع فيديو حديث على يوتيوب، يطرح متحدث رؤية عميقة ومختلفة لمفهوم الاتصال الإلهي، مؤكدًا أن الله سبحانه وتعالى في حالة اتصال دائم بكل مخلوقاته، وأن هذا القرب ليس حكرًا على أحد. هذه الفكرة، رغم أنها قد تبدو صادمة للوهلة الأولى، لها جذور راسخة في النصوص الدينية والفكر اللاهوتي، وتفتح آفاقًا جديدة لفهم علاقتنا بالخالق وبالكون من حولنا.
الوحي كظاهرة كونية: من النحلة إلى المجرة
يبدأ المتحدث حديثه بدعوة المستمع إلى النظر إلى الشجرة باحترام، ليس فقط لكونها مخلوقًا من مخلوقات الله، بل لأنها، مثلنا تمامًا، تتلقى الإلهام الإلهي. يستشهد بالقرآن الكريم ليثبت أن الوحي ليس مقتصرًا على البشر، بل هو لغة كونية يتحدث بها الخالق مع جميع مخلوقاته. يقول الله تعالى في سورة النحل: “وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ” (النحل: 68).
هنا، يستخدم القرآن لفظ “الوحي” بشكل صريح مع النحل، وهو نفس اللفظ المستخدم مع الأنبياء. يوضح علماء التفسير، مثل الإمام القرطبي، أن الوحي هنا يعني “الإلهام والهداية والإرشاد”. فالله هو الذي أرشد النحلة إلى بناء بيوتها بهذه الدقة الهندسية المذهلة، وهو الذي هداها إلى مساراتها لجمع الرحيق وإنتاج العسل.
عند البحث عن أدلة علمية، نجد أن سلوك النحل يعتبر من أعقد الظواهر في عالم الحيوان. في دراسة نشرت في مجلة “Science”، تم تسليط الضوء على “رقصة النحل” (Waggle Dance)، وهي لغة حركية معقدة تستخدمها النحلة الكشافة لإخبار بقية الخلية بموقع الغذاء بدقة مذهلة، مع تحديد الاتجاه والمسافة. يرى البعض في هذا السلوك المعقد تجليًا لذلك “الوحي” أو “الإلهام الغريزي” الذي أودعه الله في هذا المخلوق الصغير. هذا الرأي يتوافق مع ما ذكره علماء مثل الدكتور موريس بوكاي في كتابه “القرآن والعلم الحديث”، حيث أشار إلى أن دقة الوصف القرآني لحياة النحل تسبق الاكتشافات العلمية بقرون.
لا يقتصر الأمر على النحل. يمتد الاتصال الإلهي، بحسب المتحدث، ليشمل الجمادات أيضًا. يستدل على ذلك بقوله تعالى عن النار التي أُلقي فيها إبراهيم عليه السلام: “قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ” (الأنبياء: 69). هنا، يخاطب الله النار مباشرة، وتستجيب لأمره. وكذلك خطابه للسماوات والأرض: “ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ” (فصلت: 11).
هذه الآيات تقدم رؤية للكون باعتباره كائنًا حيًا، واعيًا، ومتفاعلًا مع أمر خالقه. هذه الفكرة ليست غريبة على الفكر الإسلامي، فمفهوم “التسبيح” الكوني حاضر بقوة في القرآن: “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ” (الإسراء: 44). يرى مفكرون مثل الإمام الغزالي أن لكل موجود، مهما كان، إدراكًا خاصًا به يتناسب مع مرتبته في الوجود، وبهذا الإدراك يتوجه إلى خالقه.
مراتب الاتصال الإلهي: من الإلهام إلى كلام الملك
إذا كان الله يتصل بالجميع، فما الذي يميز وحي الأنبياء؟ يجيب المتحدث بأن المسألة تكمن في “كيفيات الاتصال” التي تتفاوت حسب المراتب. فالاتصال الإلهي ليس على درجة واحدة، بل هو طيف واسع يختلف شكله وقوته باختلاف المتلقي.
- الوحي الغريزي (للكائنات غير العاقلة): كما في حالة النحلة، وهو إلهام غريزي يوجه سلوكها الفطري.
- الإلهام (للبشر من غير الأنبياء): وهو ما يلقيه الله في قلب الإنسان من خواطر أو أفكار أو إرشادات. المثال القرآني الأبرز هو قصة أم موسى: “وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ” (القصص: 7). لم تكن أم موسى نبية، ولكن الله أوحى إليها وحيًا خاصًا فيه إرشاد وتطمين. هذا النوع من الإلهام متاح للصالحين والأولياء، بل وحتى لعامة الناس بدرجات متفاوتة، وهو ما يعرف في الثقافة الإسلامية بـ “الإلهام” أو “الفراسة” أو “الخواطر الربانية”.
- الرؤيا الصادقة (في المنام): وهي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة كما ورد في الحديث الشريف، وهي متاحة للمؤمنين.
- الوحي النبوي (للأنبياء والرسل): وهو أعلى مراتب الاتصال وأشرفها. هذا النوع من الوحي يتميز بأنه يأتي لتأسيس دين أو شريعة، ويكون معصومًا من الخطأ، وغالبًا ما يتم بواسطة مَلَك (جبريل عليه السلام)، أو يكون تكليمًا مباشرًا من وراء حجاب، كما كلم الله موسى عليه السلام من وراء حجاب النار.
هذا التفريق بين مراتب الوحي هو ما يحل الإشكال. فالعامة لا يتلقون تشريعًا، بل إرشادًا في أمور حياتهم، بينما الأنبياء يتلقون وحيًا تشريعيًا للأمة كلها. يؤكد المتحدث أن لا أحد محروم من القرب الإلهي، فالله “أقرب إلينا من حبل الوريد”، ولكن البشر هم من يبتعدون ويضعون الحجب بينهم وبين هذا القرب.
هذه الفكرة تجد أصداءها في تقاليد روحانية أخرى. في التصوف الإسلامي، يتحدث العارفون مثل جلال الدين الرومي وابن عربي عن “وحدة الوجود” أو “وحدة الشهود”، حيث يرون تجليات الحق في كل شيء. وفي التقاليد الشرقية مثل الهندوسية، يتحدثون عن “براهمان” (Brahman)، الحقيقة المطلقة التي تسري في كل الكائنات. وفي الطاوية، يتحدثون عن “التاو” (Tao)، المبدأ الأزلي الذي يحكم الكون. هذه المقاربات، مع اختلاف تفاصيلها، تشترك في رؤية الكون ككيان متصل بالقداسة الإلهية.
صلاة الله على المؤمنين: رحمة لا تتخلف
ينتقل المتحدث إلى نقطة أخرى تثير استغراب البعض، وهي “صلاة الله” على النبي محمد صلى الله عليه وسلم. يتساءل البعض: كيف يصلي الله؟ يوضح المتحدث أن صلاة الله ليست كصلاة البشر، بل هي رحمة وبركة وإنزال للسكينة. والأهم من ذلك، أن هذه الصلاة ليست خاصة بالنبي وحده، بل تشمل جميع المؤمنين.
يستشهد بالآية الكريمة من سورة الأحزاب: “هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا” (الأحزاب: 43). هذه الآية قاطعة في دلالتها: فالله وملائكته يصلون على “المؤمنين” جميعًا. صلاة الله هنا، كما يفسرها الإمام الطبري، هي رحمته لهم، وصلاة الملائكة هي دعاؤهم واستغفارهم لهم. الهدف من هذه الصلاة الإلهية هو إخراج المؤمنين من ظلمات الشك والجهل والمعصية إلى نور اليقين والعلم والطاعة.
هذا الفهم يوسع دائرة الرحمة الإلهية بشكل هائل. فكل مؤمن ومؤمنة له نصيب من هذه الصلاة الإلهية، وهذه الرحمة التي لا تتخلف أبدًا. لا يوجد مؤمن محروم من قرب الله ورحمته، بل إن الله أقرب إليه من نفسه.
خلاصة ورؤية للمستقبل
يقدم هذا الخطاب رؤية متكاملة للوجود، تعيد الاعتبار لكل شيء في الكون. الشجرة، النملة، الحجر، كلها كائنات لها كرامتها وتستحق الاحترام لأنها في حالة اتصال دائم بخالقها. هذه النظرة تغير علاقة الإنسان بالبيئة من علاقة استغلال إلى علاقة احترام وتقدير، وهو ما يتوافق مع المفهوم الإسلامي للإنسان كـ “خليفة” في الأرض، مسؤول عن عمارتها والحفاظ عليها.
إن فكرة أن الاتصال الإلهي متاح للجميع، كل حسب مرتبته واستعداده، هي دعوة مفتوحة لكل إنسان لتنقية قلبه وتزكية نفسه ليكون أهلاً لتلقي الإلهامات الربانية والرحمات الإلهية. هي دعوة لإزالة الحجب التي نصنعها بأيدينا من خلال الغفلة والتعلق بالدنيا، والعودة إلى حالة الاتصال الفطري بالخالق.
في النهاية، يتركنا هذا التحليل مع شعور عميق بالدهشة والرهبة أمام عظمة الخلق واتساع الرحمة الإلهية. فالله لا يتجلى فقط في الكتب المنزلة والمعجزات الخارقة، بل في كل ورقة شجر، وفي كل قطرة مطر، وفي كل خلية نحل، وفي كل نفس يدخل ويخرج. الكون كله كتاب مفتوح، يقرأ فيه أصحاب البصائر آيات الله التي لا تنتهي.
تنبيه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تعليمية وتثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية أو دينية ملزمة. يجب دائمًا استشارة المتخصصين المؤهلين قبل اتخاذ أي قرارات.