ماذا لو كان العالم الذي نعيشه، بكل ما فيه من أشياء مادية نلمسها ونشعر بها، ليس سوى وهم كبير؟ ماذا لو كانت الصراعات التي نخوضها يوميًا من أجل البقاء وتأمين المستقبل هي مجرد “لعبة” معقدة انغمسنا فيها لدرجة أننا نسينا حقيقتنا؟ هذه ليست مقدمة لفيلم خيال علمي، بل هي الفكرة المحورية التي طرحها الطبيب النفسي الدكتور أحمد عثمان في حوار عميق، داعيًا إلى إعادة النظر في كل ما نعتبره “حقيقة” للخروج من دائرة المعاناة والقلق.

في نقاش فلسفي ملهم، يوضح الدكتور عثمان أن الثقافة السائدة عالميًا، بأنظمتها الاقتصادية والاجتماعية، هي برمجة عميقة تجعلنا نؤمن بأن الصراع ضروري من أجل البقاء. من مستوى الأفراد الذين يتنافسون على الموارد المحدودة، إلى الدول التي تخوض حروبًا لتأمين مصالحها، يعيش الجميع داخل “لعبة البقاء” (Survival Game). هذه اللعبة، التي وصفها بأنها “منام”، تدفعنا إلى حالة من الخوف الدائم والشعور بالانفصال، حيث يسعى كل فرد لتأمين نفسه على حساب الآخر، معتقدًا أن هذه هي الطريقة الوحيدة للنجاة. لكن الدكتور عثمان يطرح سؤالًا جذريًا: ماذا لو كانت هذه اللعبة كلها مبنية على فرضية خاطئة؟ ماذا لو كانت حقيقة وجودنا مختلفة تمامًا عما نعتقد؟

حقيقة الكون: حين يتحدث العلم لغة الروحانيين

لفهم هذه الفكرة، يستعين الدكتور عثمان بأحدث ما توصلت إليه فيزياء الكم، والتي تبدو وكأنها تؤكد رؤى الفلاسفة والمتصوفة القدماء. يشير إلى أن الكون الذي نعرفه يتكون من مكونات غامضة لا ندركها بشكل مباشر. وفقًا للنماذج الفيزيائية الحالية، يتألف الكون من:

  • 70% طاقة مظلمة (Dark Energy): وهي طاقة خفية وغامضة يعتقد العلماء أنها المسؤولة عن تمدد الكون المتسارع، حيث تتباعد المجرات عن بعضها بسرعات هائلة.
  • 27% مادة مظلمة (Dark Matter): وهي مادة خفية أخرى لا تتفاعل مع الضوء (لا تمتصه ولا تعكسه)، لكن وجودها يُستدل عليه من خلال تأثير جاذبيتها التي تحافظ على تماسك المجرات وتمنعها من التناثر.
  • أقل من 3% المادة العادية (Normal Matter): وهي المادة التي تتكون منها النجوم والكواكب وكل ما نراه ونلمسه، بما في ذلك أجسادنا.

المفاجأة الأكبر تكمن في طبيعة هذه النسبة الضئيلة من “المادة”. يوضح الدكتور عثمان أن فيزياء الكم كشفت أن الجسيمات الأساسية مثل الإلكترونات والذرات تتصرف بطريقة محيرة. عندما لا تكون هناك عملية رصد أو مراقبة من وعي ما، فإن هذه الجسيمات لا توجد في مكان محدد، بل تكون على شكل “موجة احتمالية” (Wave of Probability) منتشرة في الفضاء. ولكن، في اللحظة التي يتم فيها رصدها، “تنهار” هذه الموجة لتتخذ الجسيمة شكلًا وموقعًا محددًا. تُعرف هذه الظاهرة بـ “تأثير الراصد” (The Observer Effect).

هذا يعني أن العالم المادي الذي نراه “صلبًا” ومستقرًا، هو في حقيقته ليس كذلك إلا بوجود وعي يراقبه. بدون هذا الوعي، يعود كل شيء إلى حالة من الاحتمالية غير المتجسدة. بعبارة أخرى، العالم المادي “يظهر” إلى حيز الوجود عندما نوجه انتباهنا إليه.

عند البحث عن أدلة علمية، نجد أن “تأثير الراصد” هو حجر الزاوية في تجربة الشق المزدوج (Double-Slit Experiment) الشهيرة، والتي تعتبر من أكثر التجارب إثارة للحيرة في تاريخ العلم. أظهرت هذه التجربة أن الجسيمات (مثل الإلكترونات) تتصرف كموجات عند عدم مراقبتها، ولكنها تتصرف كجسيمات مادية عند مراقبتها. ورغم أن التفسير الدقيق لهذه الظاهرة لا يزال محل نقاش فلسفي بين العلماء، فإن تفسير كوبنهاغن (Copenhagen Interpretation)، وهو أحد أقدم التفسيرات وأكثرها شيوعًا، يؤكد أن عملية القياس أو الرصد هي التي تجبر الطبيعة على “اختيار” حالة واحدة من بين عدة احتمالات. بعض العلماء، مثل الفيزيائي جون فون نيومان، ذهبوا إلى أبعد من ذلك، مقترحين أن الوعي الإنساني نفسه يلعب دورًا أساسيًا في هذه العملية.

هذه الفكرة تتناغم بشكل مذهل مع ما قالته التقاليد الروحانية لآلاف السنين. يشير الدكتور عثمان إلى مقولة صوفية شهيرة: “كل ما له شكل، أو صورة، أو يمكن لمسه، ليس حقيقيًا”. فالحقيقة المطلقة، وفقًا لهذا المنظور، هي شيء أسمى من العالم المادي المتغير. كما يجد هذا المفهوم صدى في التقاليد الشرقية، مثل مفهوم “مايا” (Maya) في الهندوسية، الذي يصف العالم المادي بأنه حجاب من الوهم يغطي الحقيقة النهائية. وفي الفلسفة الطاوية، يتساءل الفيلسوف جوانغ زي عما إذا كان إنسانًا يحلم بأنه فراشة، أم فراشة تحلم بأنها إنسان، مشككًا في الحدود الفاصلة بين الحلم والواقع.

الحياة كلعبة فيديو: كيف نخرج من الانغماس؟

إذا كان العالم المادي مجرد إسقاط للوعي، فكيف نتعامل مع متطلبات الحياة اليومية من عمل وأكل وشرب؟ يجيب الدكتور عثمان بأن الحل لا يكمن في الهروب من العالم، بل في تغيير علاقتنا به. يقدم تشبيهًا بليغًا: الحياة تشبه لعبة فيديو متقنة الصنع. في اللعبة، نختار شخصية رمزية (Avatar) تمثلنا، وننغمس في أحداثها وتحدياتها. كلما كانت اللعبة أكثر إتقانًا، ننسى أننا مجرد لاعبين ونتماهى مع شخصيتنا الافتراضية، فنشعر بالغضب عند الخسارة وبالفرح عند الفوز، وقد نصل إلى حد الصراع مع لاعبين آخرين.

نحن نفعل الشيء نفسه في “لعبة الحياة”. لقد نسينا حقيقتنا كـ “لاعبين” (الوعي المراقب) وتماهينا تمامًا مع “الأفاتار” (أجسادنا، أفكارنا، هوياتنا). هذا الانغماس هو مصدر معاناتنا، لأننا نأخذ اللعبة على محمل الجد.

الخروج من هذه المعاناة لا يتطلب ترك اللعبة، بل يتطلب “الاستيقاظ” داخلها. أن نلعب ونحن ندرك أنها مجرد لعبة. هذا الإدراك البسيط يغير كل شيء. يمكنك أن تستمتع بالتحديات، وحتى بالهزائم، لأنك تعلم في أعماقك أن حقيقتك كلاعب آمنة ولا تتأثر بما يحدث لـ “الأفاتار” داخل اللعبة. يستشهد الدكتور عثمان بالفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين الذي قال: “الحياة حلم، ومن حين لآخر، نستيقظ بما يكفي لندرك أننا نحلم، ثم نعود إلى النوم مرة أخرى”. الصحوة هي تلك اللحظات التي ندرك فيها أننا نحلم.

خطوات عملية نحو “الاستيقاظ”

قد يبدو هذا الكلام نظريًا، لكن الدكتور عثمان يقترح منهجًا عمليًا للتحقق من هذه الحقيقة بنفسك، لأن “الفكرة لا تغيرها فكرة، بل تغيرها التجربة”. ويقوم هذا المنهج على خطوات:

  1. الفحص والتجربة (Self-Inquiry): بدلًا من قبول الأفكار الجاهزة، ابدأ في فحص تجربتك المباشرة. يقترح تمرينًا بسيطًا: حرك إصبعك واسأل نفسك بصدق: “من الذي يحرك؟ أنا أم الإصبع؟”. في البداية، قد تشعر أن “أنت” من يحرك، لكن مع التأمل العميق، قد تبدأ في إدراك أنك “الوعي” الذي يراقب الحركة، ولست الجسد الذي يتحرك. الهدف هو البدء في فك الارتباط والتماهي مع الجسد.

  2. إقصاء الإجابات الخاطئة (Elimination): حقيقتك هي الشيء الوحيد الثابت الذي لا يتغير. ابدأ في إقصاء كل ما هو متغير. جسدك يتغير، أفكارك تتغير، مشاعرك تتغير، ممتلكاتك تتغير. كل ما “تجمعه” في حياتك (من معرفة، شهادات، أموال، علاقات) ليس “أنت”. أنت هو “الجامع”، ولست “المجموع”. عندما تتخلص من كل هذه الهويات الزائفة، ماذا يتبقى؟ يتبقى الوعي الصافي، الحضور الساكن الذي يراقب كل هذه التغيرات.

  3. إدراك الحب كقوة جامعة (The Power of Love): الشعور بالانفصال هو أصل الصراع. عندما نعتقد أننا كائنات منفصلة، ندخل في منافسة مع الآخرين. يشبّه الدكتور عثمان هذا الشعور بالخلية السرطانية التي تتصرف بجنون وكأنها كيان مستقل، فتبدأ في التهام الخلايا المحيطة بها، مما يؤدي في النهاية إلى تدمير الجسد كله، وبالتالي تدمير نفسها. الحب، في المقابل، هو الترياق. إنه الإدراك العميق بأننا لسنا منفصلين، بل جزء من كيان واحد. عندما تحب، فإنك تتجاوز حدود “الأنا” وتشعر بالآخر كجزء منك. يذكرنا هذا بمفهوم “المادة المظلمة” التي تعمل كقوة جاذبة تجمع أجزاء الكون. الحب هو تلك “المادة الرابطة” على المستوى الإنساني، هو الذي يجمعنا ويذكرنا بوحدتنا الأصلية.

التعامل مع الواقع المؤلم

قد يتساءل البعض: كيف يمكنني أن أضحك أو أستمتع بـ “اللعبة” بينما العالم مليء بالظلم والألم؟ يشير الدكتور عثمان إلى أن آليات الدفاع النفسي، مثل السخرية والكوميديا، هي طرق مشروعة للتعامل مع عبثية الموقف وتسريب الطاقة السلبية. إنها محاولات للحفاظ على التوازن النفسي.

لكن الحل الأعمق يكمن في أن تكون أنت التغيير. عندما تستيقظ وتدرك حقيقة الوحدة، فإن تصرفاتك تتغير تلقائيًا. لن تعود قادرًا على إيذاء الآخر، لأنك تدرك أنك تؤذي نفسك. ستصبح نموذجًا حيًا (Role Model) للحب والوعي، وتساهم في رفع الوعي الجمعي، سواء كان ذلك من خلال الفن، أو التعليم، أو ببساطة من خلال طريقة عيشك اليومية.

في النهاية، الرسالة التي يقدمها الدكتور أحمد عثمان هي دعوة للتحرر الداخلي. إنها ليست دعوة للسلبية أو الهروب من المسؤولية، بل هي دعوة لإعادة تعريف هويتنا ومكانتنا في هذا الوجود. عندما ندرك أننا لسنا مجرد “أفاتار” هش في لعبة صراع، بل نحن الوعي الأبدي الذي يشهد هذه اللعبة، فإن الخوف يتبدد، وتحل محله حالة من السلام والاستمتاع بالرحلة، بكل ما فيها من تحديات وانتصارات. إنها دعوة لنستيقظ من “المنام”، ولو للحظات، لنكتشف أن الحقيقة أجمل وأوسع بكثير مما كنا نتخيل.


تنبيه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تعليمية وتثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائمًا استشارة متخصص مؤهل قبل اتخاذ أي قرارات تتعلق بصحتك.