هل يمكن أن يكون بعض البشر “مختارين” بطبيعتهم، يحملون علامات جسدية فريدة تفتح لهم أبوابًا إلى عوالم غير مرئية أو تمنحهم قدرات خاصة؟ هذا هو جوهر مفهوم “الإنسان الزهري”، وهو مصطلح يثير الكثير من الفضول والجدل في الثقافة الشعبية، خاصة في مناطق شمال إفريقيا. في مقطع فيديو انتشر على يوتيوب، تناول أحد المتحدثين هذا المفهوم بعمق، محاولًا فك شفرة أسراره، ورابطًا إياه بمفاهيم الطاعة والمعصية والقرب من الله. يقدم هذا المقال تحليلاً شاملاً لوجهة نظر المتحدث، مع مقارنتها بالأدلة العلمية والآراء الدينية والأنثروبولوجية، لاستكشاف الحقيقة وراء هذه الظاهرة الغامضة.

ما هو الإنسان الزهري؟ بين الموروث الشعبي والتفسير الروحي

في حديثه، يوضح المتحدث أن مفهوم “الزهرية” ليس له معنى واحد ثابت، بل إن جوهره يكمن في علاقته المباشرة بمدى طاعة الإنسان لخالقه أو انغماسه في المعصية. يرى أن الله قد أودع في كل إنسان “كنوزًا” دفينة، وأن الكنز الأعظم هو معرفة الله والتقرب إليه. هذه الكنوز، بحسب تعبيره، لا يمكن فتحها والوصول إلى “مائدة الكون” إلا من خلال الطاعة المطلقة لله. يتساءل المتحدث: “من ذا من الناس قد اطاع الله تلك الطاعة ليفتح الله له مائدة الكون؟”.

هذا التفسير الروحي يختلف عن المفهوم الشعبي المتداول للإنسان الزهري، خاصة في المغرب العربي. في التراث الشعبي، يُعتقد أن الإنسان الزهري هو شخص، غالبًا طفل، يولد بعلامات جسدية مميزة، مثل خط مستقيم يقطع راحة يده، أو حول في عينيه، أو انشقاق في لسانه. يُعتقد أن هذه العلامات تجعله مرئيًا للجن وقادرًا على كشف أماكن الكنوز المدفونة. ولهذا السبب، كان يُنظر إليهم تاريخيًا على أنهم أهداف للسحرة والمشعوذين الذين يسعون لاستغلالهم في طقوس شيطانية لاستخراج الكنوز.

من وجهة نظر علم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، تُعتبر هذه المعتقدات جزءًا من نظام متكامل من الفولكلور والممارسات الروحانية التي تعكس فهم المجتمعات للعالم غير المرئي وتفاعلها معه. يرى خبراء مثل الأنثروبولوجي الفنلندي إدوارد ويسترمارك، الذي درس الفولكلور المغربي في أوائل القرن العشرين، أن هذه المعتقدات تعمل كآلية لتفسير الظواهر غير المألوفة ووسيلة للتعامل مع المجهول.

العلامات الجسدية للزهري: حقيقة علمية أم خرافة؟

يركز المتحدث في الفيديو على علامة جسدية محددة يعتبرها دليلاً على “الزهرية”، وهي وجود شق أو خط في منتصف اللسان. ويذهب إلى حد عرض لسانه كدليل محتمل. لكن ماذا يقول العلم عن هذه الظاهرة؟

هذه الحالة معروفة طبيًا باسم “اللسان المشقوق” أو “اللسان الصفني” (Fissured Tongue)، وهي حالة حميدة تمامًا وغير معدية، تتميز بوجود أخاديد أو شقوق عميقة على سطح اللسان. عند البحث عن أدلة علمية، نجد أن انتشارها يتراوح بين 2% إلى 5% من سكان العالم، وقد تكون وراثية أو تظهر مع التقدم في العمر. لم أجد أي دراسة علمية، سواء كانت دراسة حالة (case study) أو دراسة وبائية (epidemiological study)، تربط بين وجود اللسان المشقوق وأي قدرات روحية أو نفسية أو ميتافيزيقية. العلم يصنفها كاختلاف تشريحي طبيعي، تمامًا مثل اختلاف لون العينين أو شكل الأنف.

من المثير للاهتمام أن أنظمة الطب التقليدي الأخرى تولي اهتمامًا كبيرًا لتشخيص الأمراض عبر اللسان.

  • في الطب الصيني التقليدي (TCM): يُعتبر اللسان خريطة للجسم، وكل منطقة فيه ترتبط بعضو معين. وجود شق في منتصف اللسان، خاصة إذا كان يمتد إلى طرفه، قد يشير إلى ما يُعرف بـ “ضعف في طاقة القلب” أو اضطراب عاطفي وروحي.
  • في الأيورفيدا (الطب الهندي التقليدي): يُعرف فحص اللسان بـ “جيهوا باريكشا” (Jihwa Pariksha)، وتُستخدم الشقوق والخطوط لتشخيص اختلالات في “الدوشا” (doshas)، وهي الطاقات الحيوية الثلاث في الجسم.

هذه المقارنات تظهر أن فكرة إعطاء معنى خاص لعلامات اللسان ليست فريدة من نوعها، لكن التفسيرات تختلف جذريًا. فبينما يربطها المتحدث بالزهرية والقدرات الروحية، يربطها الطب التقليدي بالصحة الجسدية والعاطفية، أما الطب الحديث فيعتبرها في الغالب مجرد سمة تشريحية لا تحمل أي دلالة مرضية أو روحية.

الزهري بين الطاعة والمعصية: مفتاح الكنوز الداخلية

يطرح المتحدث نقطة مهمة وهي أن وجود العلامة الجسدية لا يعني بالضرورة الصلاح. فقد يكون الشخص “زهريًا” بعلاماته، لكنه غارق في المعاصي. وهنا يكمن جوهر فلسفته: “الزهرية” الحقيقية ليست علامة جسدية، بل هي حالة روحية تُكتسب بالطاعة وتُفقد بالمعصية.

يؤكد أن الخطيئة جزء من الطبيعة البشرية، “فالمعاصي خُلقت مع الإنسان، ولا يحد من أخطاء بني آدم إلا الموت وحده”. لكنه يميز بين الزهري العاصي والزهري التائب. الزهري الذي يتوب إلى الله توبة نصوحًا هو الذي قد تُفتح له “مائدة الكون” بسر عظيم.

هذا الصراع الداخلي بين الرغبة في التوبة والعودة إلى الذنب هو حالة إنسانية عميقة. يرى المتحدث أن الشخص الذي يعيش هذا القلق وتأنيب الضمير قد يكون محبوبًا عند الله، وأن هذا الانزعاج الداخلي قد يكون بحد ذاته طريقًا إلى توبة صادقة في نهاية المطاف.

من منظور علم النفس، تتفق العديد من الدراسات على الفوائد الصحية للروحانية والتدين. على سبيل المثال، وجدت مراجعة منهجية (systematic review) نشرت في مجلة “Health Psychology” أن الانخراط في الممارسات الروحية، مثل الصلاة والتأمل، يرتبط بانخفاض مستويات التوتر والقلق وتحسين الصحة العقلية بشكل عام. يمكن تفسير فكرة “فتح مائدة الكون” التي ذكرها المتحدث على أنها استعارة للوصول إلى حالة من السلام الداخلي والوضوح الذهني والرضا، وهي حالات نفسية إيجابية يدعم العلم ارتباطها بالإيمان والممارسة الروحية.

هل الزهريون “مختارون” من الله؟

عندما يُسأل المتحدث عما إذا كان الزهريون مختارين من الله كما اختار الأنبياء والرسل، يقدم إجابة دقيقة. يوضح أن “المختارين” بالمعنى الحقيقي هم الأنبياء والرسل الذين لا خيرة لهم في أمرهم، فهم مصطفون من الله لهداية البشر. أما بقية الناس، فالأنبياء يمثلون لهم “أمثالاً” عليا للاقتداء بها.

ثم يصل إلى استنتاج مفاده أن “الزهرية” كإمكانية وقابلية “تتواجد في كل مخلوق خلقه الله”. إذن، هي ليست اختيارًا إلهيًا مسبقًا لفئة معينة من الناس، بل هي باب مفتوح أمام الجميع. من اختار طريق الطاعة، فُتح له هذا الباب، ومن اختار طريق المعصية، أُغلق في وجهه.

هذا المفهوم يجد أصداءً في حركات روحانية حديثة، مثل فكرة “أطفال النيلي” (Indigo Children) في ثقافة العصر الجديد (New Age)، حيث يُعتقد أن جيلاً جديدًا من الأطفال يولدون بهالة زرقاء وبقدرات روحية فائقة لتغيير العالم. على الرغم من الاختلافات الكبيرة، تتشارك الفكرتان في الاعتقاد بوجود أفراد ذوي سمات خاصة وقدرات كامنة.

من وجهة نظر إسلامية سائدة، يحذر العديد من العلماء من هذه المعتقدات ويعتبرونها من الخرافات والبدع التي لا أصل لها في القرآن أو السنة النبوية الصحيحة. يؤكدون أن الكرامة عند الله تكون بالتقوى، كما قال تعالى: “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ”، وأن البحث عن علامات جسدية خاصة أو الاعتقاد بوجود فئة “مختارة” من البشر غير الأنبياء يتعارض مع مبدأ المساواة في التكليف والمسؤولية أمام الله. يتفق علماء دين بارزون مثل الشيخ محمد متولي الشعراوي والشيخ ابن عثيمين على أن التقرب إلى الله يكون بالعبادة والعمل الصالح المتاح للجميع، وليس بسمات خلقية خاصة.

خلاصة

يقدم المتحدث في الفيديو رؤية روحية لمفهوم “الإنسان الزهري”، محاولاً تجريده من الخرافات الشعبية المرتبطة بالسحر والكنوز، وإعادة تأطيره ضمن منظومة الطاعة والمعصية والقرب من الله. يرى أن “الزهرية” الحقيقية ليست علامة جسدية، بل هي إمكانية روحية متاحة لكل إنسان، تُفعَّل بالطاعة وتُعطَّل بالمعصية.

عند تحليل هذه الأفكار، نجد أن الادعاءات المتعلقة بالعلامات الجسدية، مثل اللسان المشقوق، لا يدعمها أي دليل علمي، بل هي سمات تشريحية طبيعية. ومع ذلك، فإن ربط الحالة الروحية بالسلام النفسي والرضا يجد دعمًا في أبحاث علم النفس التي تظهر فوائد الإيمان والتدين. يبقى مفهوم “الإنسان الزهري” ظاهرة ثقافية معقدة، تقف عند تقاطع الفولكلور الشعبي، والتأملات الروحية، والتفسيرات العلمية، والمعتقدات الدينية.

تنويه: هذا المقال يلخص آراء المتحدث والدراسات المتاحة لأغراض تثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية أو فتوى دينية.