هل يمكن أن تكون التمارين الرياضية الشاقة التي نمارسها للحفاظ على صحتنا سيفاً ذا حدين، فتؤذي أمعاءنا بصمت؟ وماذا لو كان الحل يكمن في مركب بسيط تمت دراسته لعقود؟ في عالم يتزايد فيه الوعي بأهمية صحة الجهاز الهضمي، تظهر “متلازمة الأمعاء المتسربة” (Leaky Gut Syndrome) كأحد أبرز التحديات الصحية الصامتة. إنها حالة تصبح فيها بطانة الأمعاء الدقيقة أكثر نفاذية من المعتاد، مما يسمح للسموم وجزيئات الطعام غير المهضومة والبكتيريا بالتسرب إلى مجرى الدم، وهو ما قد يؤدي إلى التهابات مزمنة ومشاكل صحية متعددة. في مقطع فيديو حديث على يوتيوب، سلط متحدث الضوء على دراسة علمية مثيرة للاهتمام، كشفت كيف تمكن بروتوكول بسيط يعتمد على مكملين غذائيين من تحقيق نتائج مذهلة في تقليل نفاذية الأمعاء.

دراسة تكشف المستور: التمارين الشاقة وأثرها على الأمعاء

في حديثه، استعرض المتحدث دراسة علمية بُنيت على حقيقة معروفة في الأوساط الطبية والرياضية: التمارين الرياضية عالية الكثافة، خاصة في الأجواء الحارة، يمكن أن تزيد من نفاذية بطانة الأمعاء. يحدث هذا لسببين رئيسيين: أولاً، يتم تحويل تدفق الدم بعيداً عن الأمعاء وتوجيهه نحو العضلات العاملة لتلبية حاجتها المتزايدة من الأكسجين. ثانياً، يؤدي ارتفاع درجة حرارة الجسم الداخلية إلى إجهاد خلايا الأمعاء وإتلاف “الوصلات المحكمة” (Tight Junctions)، وهي بروتينات دقيقة تعمل كحواجز تمنع تسرب محتويات الأمعاء إلى الدم.

استخدم الباحثون هذا التأثير كطريقة محكومة لإحداث “تسرب الأمعاء” بشكل مؤقت لدى المشاركين الأصحاء. هدفت الدراسة، التي نشرت في مجلة Nutrients، إلى اختبار قدرة مكملين على تخفيف هذا الضرر: الزنك كارنوزين (Zinc Carnosine) واللبا البقري (Bovine Colostrum).

خضع كل مشارك في الدراسة لأربع مراحل علاجية مختلفة، مدة كل منها 14 يوماً، مع فترات راحة بينها لضمان عدم تداخل التأثيرات:

  1. المرحلة الأولى: تناول دواء وهمي (Placebo).
  2. المرحلة الثانية: تناول مكمل الزنك كارنوزين.
  3. المرحلة الثالثة: تناول مكمل اللبا البقري.
  4. المرحلة الرابعة: تناول مزيج من الزنك كارنوزين واللبا البقري.

بعد كل فترة علاج، كان على المشاركين أداء بروتوكول تمارين شاق مصمم لرفع درجة حرارة الجسم الأساسية بمقدار درجتين مئويتين، وهو ما يكفي لإحداث الإجهاد الحراري وزيادة نفاذية الأمعاء. لقياس مدى “تسرب الأمعاء”، استخدم الباحثون اختباراً معيارياً يُعرف بـ “نسبة اللاكتولوز إلى الرامنوز” (Lactulose to Rhamnose Ratio). في هذا الاختبار، يشرب الشخص محلولاً يحتوي على نوعين من السكريات. الرامنوز هو سكر صغير تمتصه الأمعاء بسهولة، بينما اللاكتولوز سكر أكبر حجماً لا يفترض أن يعبر بطانة الأمعاء السليمة بكميات كبيرة. إذا زادت نفاذية الأمعاء، فإن كمية أكبر من اللاكتولوز تتسرب إلى مجرى الدم وتظهر في البول، مما يشير إلى وجود “تسرب”.

نتائج مذهلة وفاصلة

كانت النتائج التي توصل إليها الباحثون لافتة للغاية. كما ذكر المتحدث، عندما تناول المتطوعون الدواء الوهمي، تضاعفت نفاذية الأمعاء لديهم ثلاث مرات بعد أداء التمارين الشاقة. لكن الصورة تغيرت تماماً مع المكملات.

عندما تناول المشاركون الزنك كارنوزين لمدة أسبوعين قبل التمرين، انخفضت الزيادة في نفاذية الأمعاء بشكل كبير. وبالمثل، ساعد اللبا البقري في تحقيق نتيجة مماثلة. أما المفاجأة الكبرى فكانت عند استخدام المكملين معاً، حيث تحققت الفائدة الأكبر.

وفقاً للدراسة التي تحمل عنوان Zinc Carnosine Works with Bovine Colostrum in Truncating Heavy-Exercise-Induced Increase in Gut Permeability in Healthy Volunteers، وهي دراسة بشرية من نوع تجربة منضبطة معشاة (Randomized Controlled Trial)، أظهرت النتائج أن الزيادة في نفاذية الأمعاء الناتجة عن التمرين انخفضت بنسب مئوية واضحة:

  • بنسبة 71% لدى المجموعة التي تناولت الزنك كارنوزين وحده.
  • بنسبة 68% لدى المجموعة التي تناولت اللبا البقري وحده.
  • بنسبة 85% لدى المجموعة التي تناولت المزيج من الزنك كارنوزين واللبا.

هذه الأرقام تقدم دليلاً قوياً على أن هذه المكملات لا تساهم فقط في حماية بطانة الأمعاء من الإجهاد، بل تفعل ذلك بفعالية كبيرة.

كيف يعمل الزنك كارنوزين على المستوى الخلوي؟

لم يكتف الباحثون بالدراسة على البشر، بل أجروا تجارب معملية (in vitro) على مزارع من خلايا الأمعاء البشرية لفهم آلية العمل. عند تعريض هذه الخلايا للحرارة لمحاكاة الإجهاد الحراري، لاحظوا أنها بدأت تموت بشكل أسرع، وتفككت بروتينات الوصلات المحكمة بينها، وانخفضت المقاومة الكهربائية للطبقة الخلوية، وكلها علامات تدل على ضعف الحاجز المعوي.

عندما أضاف الباحثون الزنك كارنوزين إلى هذه الخلايا المجهدة، انعكست العديد من هذه التغيرات الضارة. والأهم من ذلك، لاحظوا أن الزنك كارنوزين زاد من إنتاج بروتين وقائي يسمى “بروتين الصدمة الحرارية 70” (Heat Shock Protein 70 - HSP70). تعمل هذه البروتينات كـ “مرافقات جزيئية” (molecular chaperones) تساعد الخلايا على التعامل مع الإجهاد وتحافظ على استقرار بنية البروتينات الأخرى، بما في ذلك بروتينات الوصلات المحكمة. هذا الاكتشاف يقدم تفسيراً بيولوجياً قوياً لكيفية قيام الزنك كارنوزين “بإصلاح” الحاجز المعوي على المستوى الجزيئي.

ليس مجرد اكتشاف حديث: تاريخ الزنك كارنوزين في اليابان

كما أشار المتحدث، فإن الأدلة على فعالية الزنك كارنوزين ليست وليدة هذه الدراسة الصغيرة. في الواقع، تمت دراسة هذا المركب لعقود، خاصة في اليابان، حيث تم تطويره في الأصل كدواء يُصرف بوصفة طبية لعلاج قرحة المعدة (Gastric Ulcers). لاحظ الباحثون اليابانيون أن هذا المركب يمتلك خاصية فريدة، حيث يبدو أنه يلتصق بشكل انتقائي بالمناطق المتضررة والمتقرحة في بطانة المعدة، ثم يطلق مكوناته ببطء لتعزيز الشفاء مباشرة في موقع الإصابة.

على مر السنين، أظهرت دراسات حيوانية متعددة أن له إجراءات مفيدة لصحة الأمعاء. على سبيل المثال، وجدت دراسات أجريت على خلايا الأمعاء أن الزنك كارنوزين يسرّع من “هجرة الخلايا” (Cell Migration) إلى المناطق المصابة، وهي خطوة حاسمة في التئام الجروح في بطانة الأمعاء. كما أنه يشجع هذه الخلايا على الانقسام والتكاثر، مما يسمح للبطانة بالتجدد بشكل أسرع.

لماذا الزنك كارنوزين وليس الزنك العادي؟

هنا يطرح سؤال مهم: ما الذي يجعل الزنك كارنوزين مميزاً؟ ولماذا لا نكتفي بتناول مكمل زنك عادي؟

الجواب يكمن في تركيبته الكيميائية الفريدة. الزنك كارنوزين ليس مجرد خليط من الزنك وحمض الكارنوزين الأميني، بل هو مركب مخلبي (Chelated Complex)، حيث يرتبط الزنك بالكارنوزين بروابط كيميائية قوية. هذا الهيكل يغير تماماً سلوك المكمل داخل الجسم.

على عكس أملاح الزنك العادية (مثل كبريتات الزنك أو غلوكونات الزنك) التي يتم امتصاصها بسرعة في مجرى الدم وتوزيعها في جميع أنحاء الجسم، يظل الزنك كارنوزين مستقراً في البيئة الحمضية للمعدة. وبفضل خاصية الالتصاق التي يتمتع بها، فإنه يبقى على بطانة الجهاز الهضمي لفترة أطول، خاصة في المواقع المتضررة، ويطلق الزنك ببطء مباشرة حيث تشتد الحاجة إليه. هذا “التأثير الموضعي” هو سر فعاليته في دعم شفاء الحاجز المعوي بشكل خاص.

بالإضافة إلى ذلك، فإن جزء الكارنوزين في الجزيء له خصائصه الخاصة، فهو مضاد قوي للأكسدة ومضاد للالتهابات. وعندما يجتمع الزنك والكارنوزين معاً في هذا المركب، يكون لهما تأثير تآزري أقوى من تأثير كل منهما على حدة.

اللبا البقري (السرسوب): الكنز المنسي

لم تقتصر الدراسة على الزنك كارنوزين، بل شملت أيضاً اللبا البقري (Bovine Colostrum)، وهو الحليب الذي تنتجه الأبقار في الأيام القليلة الأولى بعد الولادة. يُعرف اللبا في مختلف الثقافات العربية بأسماء مثل “السرسوب” أو “اللبأ”، وكان يُعتبر تقليدياً طعاماً ذا قيمة غذائية عالية يُعطى للمواليد الجدد والمرضى لتقوية مناعتهم.

العلم الحديث يؤكد هذه الحكمة التقليدية. اللبا غني جداً بالمركبات النشطة بيولوجياً، بما في ذلك:

  • الأجسام المضادة (Immunoglobulins): مثل IgA و IgG، التي تساعد على تحييد مسببات الأمراض في الأمعاء.
  • عوامل النمو (Growth Factors): مثل عامل النمو الشبيه بالأنسولين (IGF-1) وعامل نمو البشرة (EGF)، التي تحفز إصلاح وتجديد خلايا بطانة الأمعاء.
  • اللاكتوفيرين (Lactoferrin): وهو بروتين له خصائص مضادة للميكروبات ومضادة للالتهابات.

توجد العديد من الدراسات التي تدعم استخدام اللبا البقري لصحة الأمعاء. على سبيل المثال، أظهرت مراجعة علمية نشرت في Journal of the Australian Traditional-Medicine Society أن اللبا يمكن أن يكون فعالاً في تقليل نفاذية الأمعاء التي يسببها استخدام مضادات الالتهاب غير الستيرويدية (مثل الإيبوبروفين). يتفق خبراء في الطب الوظيفي، مثل الدكتور جوش آكس (Dr. Josh Axe)، على أن اللبا البقري هو أحد أفضل المكملات لدعم صحة الحاجز المعوي.

تطبيقات عملية وبروتوكول مقترح

بناءً على هذه الأدلة، يقترح المتحدث أن يكون الزنك كارنوزين، إلى جانب مكمل الجلوتامين (Glutamine) المعروف بدوره في تغذية خلايا الأمعاء، عنصراً أساسياً في أي بروتوكول يهدف إلى علاج الأمعاء المتسربة. ويوصي بالتحول من مكملات الزنك العادية إلى الزنك كارنوزين، خاصة في الحالات التي يتعرض فيها الجهاز الهضمي لضغط شديد، مثل:

  • التمارين الرياضية المكثفة.
  • الاستخدام المتكرر لأدوية مثل الإيبوبروفين.
  • التعافي من بعض أنواع العدوى المعوية.

الجرعات النموذجية المستخدمة في الأبحاث تتراوح بين 37.5 إلى 75 ملليغرام من الزنك كارنوزين مرتين يومياً (أي ما مجموعه 75 إلى 150 ملليغرام في اليوم). هذه الجرعة توفر حوالي 16 إلى 34 ملليغرام من الزنك الأولي (Elemental Zinc)، وهي كمية آمنة وفعالة.

خاتمة متوازنة

على الرغم من أن هذه النتائج واعدة للغاية، فمن المهم الحفاظ على منظور متوازن. كما أقر المتحدث، كانت الدراسة المذكورة صغيرة الحجم، وهناك حاجة إلى تجارب سريرية أكبر على الأشخاص الذين يعانون من مشاكل معوية مزمنة (مثل مرض كرون أو التهاب القولون التقرحي) لتأكيد هذه الفوائد على نطاق أوسع.

ومع ذلك، فإن الأدلة المتراكمة من عقود من الأبحاث، إلى جانب آلية العمل البيولوجية المقنعة، تجعل من الزنك كارنوزين واللبا البقري خيارات علاجية طبيعية واعدة جداً لدعم صحة الحاجز المعوي ومواجهة تحديات “الأمعاء المتسربة” في عالمنا الحديث.


تنويه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تعليمية فقط ولا يعتبر استشارة طبية. يرجى استشارة طبيبك قبل البدء في أي نظام علاجي جديد.