هل يمكن أن يكون استئصال عضو كامل من الجسم هو الحل النهائي لمشكلة صحية، أم أنه قد يكون بداية لسلسلة من التحديات الصحية الجديدة والأكثر تعقيدًا؟ هذا هو السؤال المحوري الذي يطرحه الكثيرون عند مواجهة قرار استئصال المرارة، وهو إجراء جراحي أصبح شائعًا للغاية. في فيديو حديث على يوتيوب، تناول متحدث متخصص في التغذية هذا الموضوع بعمق، مشيرًا إلى أن إزالة المرارة دون معالجة الأسباب الجذرية للمشكلة يشبه إزالة ضوء تحذير الزيت في السيارة بدلاً من إضافة الزيت للمحرك.
في هذا التقرير، سنتعمق في النقاط التي أثارها المتحدث، ونستكشف الوظائف الحيوية للمرارة، والأسباب الحقيقية التي تؤدي إلى تكون الحصوات والالتهابات، والمخاطر الصحية طويلة الأمد التي قد تترتب على استئصالها، مع تدعيم كل ذلك بالأدلة العلمية المتاحة وآراء خبراء آخرين، بالإضافة إلى نظرة على كيفية تعامل أنظمة الطب التقليدي مع هذه المشكلة.
المرارة: الحارس الصامت للجهاز الهضمي
قد تبدو المرارة (Gallbladder) عضوًا صغيرًا يمكن الاستغناء عنه، لكنها في الحقيقة تلعب دورًا لا غنى عنه في عملية الهضم وصحة الجسم بشكل عام. كما أوضح المتحدث، المرارة ليست مجرد “ديكور”، بل هي جزء أساسي من الجهاز الهضمي. وظيفتها الرئيسية هي تخزين وتركيز العصارة الصفراوية (Bile) التي ينتجها الكبد. عندما نتناول الطعام، وخاصة الدهون، تنقبض المرارة لتفرز هذه العصارة المركزة في الأمعاء الدقيقة.
هذه العصارة الصفراوية ليست مجرد سائل هضمي، بل هي مركب حيوي له وظائف متعددة ومعقدة:
- 
    هضم وامتصاص الدهون: العصارة الصفراوية هي المادة الوحيدة في الجسم القادرة على تكسير الدهون إلى جزيئات صغيرة يمكن امتصاصها. بدونها، لا يستطيع الجسم الاستفادة من الدهون الصحية الضرورية لبناء أغشية الخلايا، وإنتاج الهرمونات، وامتصاص الفيتامينات الذائبة في الدهون. 
- 
    امتصاص الفيتامينات الحيوية: فيتامينات A, D, E, K هي فيتامينات ذائبة في الدهون، مما يعني أن الجسم لا يمكنه امتصاصها إلا بوجود كمية كافية من العصارة الصفراوية. نقص هذه الفيتامينات يؤدي إلى مشاكل تتراوح من ضعف المناعة وهشاشة العظام إلى مشاكل في تخثر الدم وصحة الجلد. 
- 
    تنظيم ميكروبيوم الأمعاء: تعمل العصارة الصفراوية كمنظم طبيعي للبكتيريا في الأمعاء الدقيقة، حيث تمنع فرط نمو البكتيريا الضارة والفطريات (المعروفة بحالة SIBO - Small Intestinal Bacterial Overgrowth). 
- 
    تحفيز الحركة الدودية للأمعاء: تعمل الأملاح الصفراوية كملين طبيعي، مما يساعد على منع الإمساك وضمان حركة الأمعاء السليمة. 
- 
    التخلص من السموم: الكبد يقوم بتصفية السموم والفضلات من الدم، ويستخدم العصارة الصفراوية كوسيلة أساسية لطرح هذه المواد خارج الجسم عبر البراز. من بين هذه الفضلات البيليروبين (Bilirubin) والكوليسترول الزائد. 
لماذا “تمرض” المرارة؟ البحث عن الجاني الحقيقي
عادةً ما يتم اقتراح استئصال المرارة بسبب تكون حصوات مؤلمة (Gallstones)، أو التهاب المرارة (Cholecystitis)، أو انسداد القنوات المرارية. لكن المتحدث يجادل بأن هذه المشاكل ليست سوى أعراض لمشكلة أعمق تكمن في مكان آخر، وتحديدًا في الكبد.
الكبد هو المحور: الكبد هو مصنع العصارة الصفراوية. إذا كان الكبد لا يعمل بكفاءة، فإن جودة وتركيب العصارة الصفراوية يتغيران، مما يهيئ الظروف لتكون الحصوات. السبب الأكثر شيوعًا اليوم هو مرض الكبد الدهني غير الكحولي (NAFLD). عندما يتراكم الدهن في الكبد، فإنه يفرز كميات زائدة من الكوليسترول في العصارة الصفراوية. هذا الكوليسترول الزائد لا يمكن أن يظل ذائبًا، فيبدأ في التبلور وتكوين حصوات الكوليسترول الصلبة، وهي النوع الأكثر شيوعًا من حصوات المرارة.
الأدلة العلمية تدعم هذا الرأي بقوة:
- دراسة مراجعة (Review) نشرت في مجلة World Journal of Gastroenterology عام 2017 وجدت أن مرض الكبد الدهني غير الكحولي هو عامل خطر مستقل ومهم لتطور حصوات المرارة. وأشارت الدراسة إلى أن مقاومة الأنسولين والالتهابات المصاحبة للكبد الدهني تغير تركيبة العصارة الصفراوية وتضعف حركة المرارة، مما يزيد من خطر تكون الحصوات.
- تحليل تلوي (Meta-analysis) ضخم شمل أكثر من 80 ألف مشارك ونشر عام 2021، أكد وجود ارتباط قوي بين الكبد الدهني وزيادة خطر الإصابة بحصوات المرارة بنسبة تصل إلى 56%.
عوامل الخطر الأخرى التي تؤثر على الكبد والمرارة:
- النظام الغذائي: الأنظمة الغذائية الغنية بالسكريات، النشويات المكررة، والدهون المهدرجة (الموجودة في الوجبات السريعة والأطعمة المصنعة) هي المحرك الرئيسي للكبد الدهني.
- ارتفاع هرمون الاستروجين: النساء أكثر عرضة للإصابة بحصوات المرارة، خاصة أثناء الحمل أو عند استخدام حبوب منع الحمل أو العلاج الهرموني البديل. الاستروجين يزيد من تشبع العصارة الصفراوية بالكوليسترول ويبطئ حركة المرارة.
- الالتهابات المزمنة: أي حالة التهابية في الجسم تدفع الكبد لإنتاج المزيد من الكوليسترول كجزء من عملية الإصلاح، مما يزيد من خطر تكون الحصوات.
- التهابات الكبد الفيروسية: مثل التهاب الكبد C و B، يمكن أن تضعف وظائف الكبد وتؤدي إلى مشاكل في المرارة.
يتفق العديد من خبراء الطب الوظيفي، مثل الدكتور مارك هايمان (Dr. Mark Hyman)، على أن حصوات المرارة غالبًا ما تكون “مشكلة أيضية” تبدأ من مقاومة الأنسولين وسوء التغذية، وأن التركيز يجب أن يكون على علاج هذه الأسباب الجذرية.
نظرة من الطب التقليدي: حكمة الشرق
ما طرحه المتحدث يتوافق بشكل مذهل مع مبادئ الطب الصيني التقليدي (TCM) والأيورفيدا (Ayurveda).
- في الطب الصيني التقليدي: يُعتبر الكبد والمرارة زوجًا من الأعضاء (ين-يانغ) ينتميان إلى عنصر الخشب. صحة المرارة تعتمد كليًا على صحة الكبد. أي ركود في طاقة الكبد (Qi Stagnation)، غالبًا ما يكون ناتجًا عن الإجهاد والغضب وسوء التغذية، سيؤدي مباشرة إلى ركود في العصارة الصفراوية، مما يسبب مشاكل مثل الحصوات والالتهابات.
- في الأيورفيدا: ترتبط هذه المشاكل باضطراب “بيتا دوشا” (Pitta Dosha)، وهي الطاقة المسؤولة عن الهضم والتمثيل الغذائي. الكبد والمرارة هما من المواقع الرئيسية لـ “بيتا”. تراكم “آما” (Ama)، وهي فضلات أيضية سامة ناتجة عن ضعف الهضم، مع تفاقم “بيتا” و”كافا” (Kapha)، يؤدي إلى تكوين مادة لزجة وسميكة في المرارة، مما ينتج عنه الحصوات.
ما بعد الاستئصال: سلسلة من المضاعفات المحتملة
إزالة المرارة لا تعالج المشكلة الأصلية في الكبد، بل تزيل فقط العضو الذي كان يعاني من الأعراض. والأسوأ من ذلك، أنها تخلق مجموعة جديدة من المشاكل بسبب غياب العصارة الصفراوية المركزة.
- سوء هضم الدهون ونقص المغذيات: بدون مرارة، تتسرب العصارة الصفراوية المخففة من الكبد إلى الأمعاء بشكل مستمر بدلاً من إفرازها عند الحاجة. هذه العصارة ليست فعالة في هضم الدهون، مما يؤدي إلى:
    - نقص الفيتامينات الذائبة في الدهون (A, D, E, K): وهذا ما يفسر لماذا يعاني الكثيرون من مشاكل مثل جفاف الجلد، وضعف الرؤية الليلية (نقص فيتامين A)، وضعف المناعة (نقص فيتامين D)، ومشاكل في تخثر الدم (نقص فيتامين K).
- فقر الدم (Anemia): أشار المتحدث إلى أن معظم من يراهم بعد استئصال المرارة يعانون من فقر الدم. امتصاص الحديد يتأثر أيضًا بصحة الجهاز الهضمي العامة وقدرة الجسم على امتصاص المغذيات.
- ضعف عام وسوء تغذية: لأن الجسم لا يستطيع الحصول على الطاقة والمواد البنائية من الدهون.
 
- اضطرابات الجهاز الهضمي المزمنة:
    - الإسهال: هو الشكوى الأكثر شيوعًا بعد استئصال المرارة، ويحدث بسبب التسريب المستمر للعصارة الصفراوية التي تهيج القولون. تُعرف هذه الحالة بـ “إسهال الأحماض الصفراوية” (Bile Acid Diarrhea).
- الإمساك: في حالات أخرى، قد تكون كمية العصارة الصفراوية غير كافية لتحفيز حركة الأمعاء، مما يؤدي إلى الإمساك.
- فرط نمو البكتيريا في الأمعاء الدقيقة (SIBO): غياب التأثير المضاد للميكروبات للعصارة الصفراوية المركزة يسمح للبكتيريا بالتكاثر في الأمعاء الدقيقة، مما يسبب انتفاخًا وغازات وآلامًا مزمنة. دراسة نشرت عام 2020 في Journal of Clinical Medicine وجدت أن استئصال المرارة يزيد بشكل كبير من خطر الإصابة بـ SIBO.
 
- 
    خمول الغدة الدرقية (Hypothyroidism): هناك علاقة قوية وموثقة بين صحة المرارة ووظيفة الغدة الدرقية. العصارة الصفراوية ضرورية لتحويل هرمون الغدة الدرقية غير النشط (T4) إلى الشكل النشط (T3) في الكبد والأمعاء. بحث منشور في Journal of Gastroenterology and Hepatology أشار إلى أن المرضى الذين خضعوا لاستئصال المرارة لديهم خطر متزايد للإصابة بخمول الغدة الدرقية. 
- ارتفاع الكوليسترول والدهون الثلاثية: قد يبدو هذا متناقضًا، لكن بدون عصارة صفراوية كافية، يفقد الجسم إحدى أهم آلياته للتخلص من الكوليسترول الزائد. هذا يمكن أن يؤدي إلى تفاقم المشاكل الأيضية التي كانت موجودة من البداية.
كيف تتعايش بصحة بعد استئصال المرارة (أو تتجنبه)؟
إذا كنت قد أجريت العملية بالفعل، أو إذا كنت تعاني من مشاكل في المرارة وترغب في تجنب الجراحة، فإن الاستراتيجية تكمن في دعم الكبد وتعويض وظيفة المرارة المفقودة.
أولاً: تعديل النظام الغذائي
- لا تتجنب الدهون! هذا هو الخطأ الأكبر. الجسم يحتاج إلى الدهون الصحية. المفتاح هو اختيار الأنواع الصحيحة وتناولها بكميات معقولة. الدهون الصحية مثل زيت الزيتون البكر، الأفوكادو، المكسرات، والأسماك الدهنية ضرورية. زيت جوز الهند (وخاصة زيت MCT) يعتبر خيارًا ممتازًا لأنه لا يتطلب عصارة صفراوية لهضمه.
- تجنب الأطعمة الضارة: السكر، الدقيق الأبيض، الأطعمة المصنعة، والدهون المهدرجة يجب التخلص منها لأنها تزيد العبء على الكبد.
- تنظيم الوجبات: الصيام المتقطع أو تناول وجبتين رئيسيتين فقط في اليوم (بدلاً من وجبات صغيرة ومتعددة) يمنح الجهاز الهضمي والكبد فترة راحة للتعافي.
ثانياً: المكملات الغذائية الداعمة هذه الخطوة حاسمة لمن استأصلوا المرارة.
- الأملاح الصفراوية (Bile Salts): تناول مكملات الأملاح الصفراوية مع الوجبات يساعد على هضم الدهون وامتصاص الفيتامينات. أشار المتحدث إلى نوعين:
    - TUDCA (Tauroursodeoxycholic acid): هو حمض صفراوي قابل للذوبان في الماء، ويعتبر من أفضل المكملات لدعم صحة الكبد وتسييل العصارة الصفراوية. العديد من الدراسات، بما في ذلك دراسات على البشر، أظهرت أن TUDCA يمكن أن يساعد في إذابة حصوات المرارة الصغيرة وتحسين وظائف الكبد في حالات ركود العصارة الصفراوية (Cholestasis). الجرعة المقترحة غالبًا ما تكون حوالي 500 ملغ يوميًا مع الوجبات.
- مكملات الأملاح الصفراوية العامة (Bile Acid Factors): تحتوي على مزيج من الأحماض الصفراوية (مثل حمض الكوليك والديوكسيكوليك) التي تحاكي العصارة الصفراوية الطبيعية.
 
- الكولين (Choline): هذه المادة الغذائية الشبيهة بالفيتامينات ضرورية للغاية. الكولين هو مكون أساسي للفوسفاتيديل كولين (Phosphatidylcholine)، الذي يساعد على إبقاء الكوليسترول ذائبًا في العصارة الصفراوية ويمنع تكون الحصوات. كما أنه ضروري لنقل الدهون خارج الكبد.
    - بحث علمي: دراسة منشورة في Journal of Nutrition أظهرت أن نقص الكولين هو سبب مباشر لتطور مرض الكبد الدهني.
- المصادر الغذائية: يوجد الكولين بكثرة في صفار البيض، كبد البقر، اللحوم، والأسماك.
- كمكمل غذائي: إذا كان مكمل الأملاح الصفراوية لا يحتوي على الكولين، فمن الحكمة تناوله بشكل منفصل.
 
الخلاصة: قرار يستحق التفكير العميق
يكشف التحليل العميق لوظائف المرارة والمشاكل المرتبطة بها عن حقيقة مهمة: مشاكل المرارة غالبًا ما تكون صرخة استغاثة من الكبد والجهاز الأيضي بأكمله. استئصال المرارة قد يخفف الألم على المدى القصير، لكنه لا يعالج المرض الأساسي وقد يفتح الباب أمام مشاكل صحية مزمنة ومعقدة.
قبل اتخاذ قرار لا رجعة فيه مثل استئصال عضو حيوي، من الضروري استكشاف الخيارات الأخرى التي تركز على علاج السبب الجذري: تحسين وظائف الكبد من خلال نظام غذائي صحي، تقليل الالتهابات، ودعم إنتاج وتدفق العصارة الصفراوية الصحية. وحتى بالنسبة لأولئك الذين أجروا العملية بالفعل، فإن تبني هذه الاستراتيجيات يمكن أن يقلل بشكل كبير من المضاعفات ويساعدهم على استعادة صحتهم وحيويتهم.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تثقيفية فقط ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائمًا استشارة الطبيب قبل اتخاذ أي قرارات تتعلق بصحتك.