قد يكون الشفاء من السرطان ممكناً… لكن ماذا لو كانت الوقاية من المسبب الأول للوفاة في العالم، أمراض القلب والأوعية الدموية، أبسط مما نتخيل؟ ماذا لو كانت غالبية النوبات القلبية والسكتات الدماغية لا تنبع من تراكم الكوليسترول ببطء على مدى عقود، بل من حدث مفاجئ وكارثي يمكن لنمط حياتنا أن يمنعه؟ في مقطع فيديو حديث على يوتيوب، تم طرح نظرية ثورية تستند إلى أبحاث البروفيسور دوغلاس كيل، وهو عالم ميكروبيولوجي بريطاني بارز، تفيد بأن السبب الحقيقي وراء 80% إلى 90% من النوبات القلبية وما يقرب من 87% من السكتات الدماغية هو نوع خبيث من الجلطات الدموية التي يصعب إذابتها، والتي تتشكل بفعل عاصفة مثالية من ثلاثة عوامل: الميكروبات الخاملة، والحديد الزائد، والتوتر.

الخطر الخفي: عندما تصبح الجلطات غير طبيعية

في حديثه، يوضح المتحدث أن عملية التجلط هي آلية بقاء أساسية. عندما نتعرض لجرح، تتشكل جلطة لوقف النزيف، ثم تذوب بشكل طبيعي بمجرد التئام الجرح. لكن الجلطات التي تسبب النوبات القلبية والسكتات الدماغية مختلفة تمامًا. إنها ليست جلطات طبيعية، بل هي عبارة عن شبكات كثيفة ومتشابكة من بروتين يسمى الفيبرين (Fibrin)، والتي تصبح صلبة ومقاومة لآليات الجسم الطبيعية لإذابتها. يشبهها المتحدث بـ “سباغيتي متصلبة”. السؤال المحوري هو: ما الذي يحول عملية التجلط الطبيعية إلى هذا الشكل المرضي والقاتل؟

يشير المتحدث إلى أن البروفيسور دوغلاس كيل اكتشف أن هذه الجلطات المرضية تحتوي على مكونات لا توجد في الجلطات العادية. هذه المكونات هي التي تشعل “العاصفة المثالية” داخل أوعيتنا الدموية.

العاصفة المثالية: ثلاثية تكوين الجلطات القاتلة

وفقًا للنظرية المستندة إلى أعمال كيل، هناك ثلاثة عناصر رئيسية تجتمع لتكوين هذه الجلطات الخطيرة:

1. الشرارة: السموم الداخلية (Endotoxins) من الميكروبات

العنصر الأول هو تسرب جزيئات من جدران البكتيريا الميتة، وتحديداً البكتيريا سالبة الجرام، إلى مجرى الدم. تُعرف هذه الجزيئات بالسكريات الدهنية المتعددة (Lipopolysaccharides أو LPS)، أو “السموم الداخلية”. يمكن أن يحدث هذا التسرب من خلال اللثة الملتهبة (مرض دواعم السن) أو من خلال الأمعاء التي تعاني من “متلازمة الأمعاء المتسربة” (Increased Intestinal Permeability).

عندما بحثت في الأدبيات العلمية، وجدت أن العلاقة بين السموم الداخلية (LPS) وتكوين الجلطات موثقة جيدًا. يطلق على هذه الظاهرة “التخثر المنتشر داخل الأوعية” (Disseminated Intravascular Coagulation).

  • دراسة (مراجعة) عام 2020 منشورة في مجلة Frontiers in Immunology بعنوان “LPS-induced Coagulopathy and Disseminated Intravascular Coagulation” تشرح بالتفصيل كيف أن كميات ضئيلة من LPS يمكن أن تؤدي إلى استجابة التهابية هائلة وتنشيط شلال التخثر، مما يؤدي إلى تكوين جلطات الفيبرين المرضية التي وصفها المتحدث.
  • يوضح البروفيسور كيل في أبحاثه أن هذه السموم الداخلية تعمل كـ “نواة” تتجمع حولها بروتينات الفيبرين لتشكل تلك الشبكة الكثيفة والمقاومة للتحلل.

2. الوقود: الحديد الزائد (Excess Iron)

العنصر الثاني هو وجود كميات زائدة من الحديد الحر في الجسم. يوضح المتحدث أن الكائنات الممرضة، بما في ذلك تلك التي تنتج السموم الداخلية، “تتغذى” على الحديد. بينما يحتاج البشر إلى الأكسجين، تحتاج هذه الميكروبات إلى الحديد لتنمو وتتكاثر. وجود فائض من الحديد الحر في الدم لا يغذي هذه الميكروبات فحسب، بل يعمل أيضًا كعامل محفز (catalyst) يضاعف من قدرة السموم الداخلية على تكوين الجلطات المرضية.

هذه الفكرة مدعومة بقوة في الأوساط العلمية.

  • دراسة (مراجعة) نشرت في Journal of the American Heart Association عام 2019 بعنوان “Iron and Cardiovascular Disease” تستعرض الأدلة التي تربط بين ارتفاع مستويات الحديد (خاصة الفيريتين) وزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
  • الأشخاص الذين يعانون من حالات وراثية مثل داء ترسب الأصبغة الدموية (Hemochromatosis)، الذي يسبب تراكم الحديد في الجسم، لديهم مخاطر أعلى بكثير للإصابة بالنوبات القلبية.

يُحذر المتحدث من مصادر الحديد الزائد، مثل الأطعمة المدعمة (الحبوب، الخبز، المعكرونة)، والمكملات الغذائية التي تحتوي على الحديد (خاصة إذا لم يكن هناك نقص حقيقي)، وحتى الطهي في أواني حديدية. كما يشير إلى أن استهلاك الكحول يزيد من امتصاص الحديد ومستوياته في الجسم.

3. المضخم: التوتر (Stress)

العنصر الثالث الذي يكمل العاصفة هو التوتر. عندما نتعرض للتوتر، يفرز الجسم هرمونات مثل الأدرينالين والكورتيزول. يوضح المتحدث أن الأدرينالين يعزز بشكل كبير قدرة الميكروبات الممرضة على استهلاك الحديد والتكاثر. بالإضافة إلى ذلك، فإن هرمونات التوتر، وخاصة الكورتيزول، تثبط جهاز المناعة، مما يسمح لهذه الميكروبات بالخروج عن السيطرة.

هذا يفسر الظاهرة المعروفة بارتفاع خطر الإصابة بنوبة قلبية بعد حدث مجهد للغاية، مثل فقدان شخص عزيز (متلازمة القلب المكسور أو Takotsubo cardiomyopathy).

  • دراسة (بشرية) نشرت في مجلة Circulation عام 2012 وجدت أن خطر الإصابة بنوبة قلبية في الـ 24 ساعة التي تلي وفاة شخص مهم يرتفع بمقدار 21 ضعفًا.
  • يذكر المتحدث أن الخطر يمكن أن يرتفع بنسبة تصل إلى 2000%، وهو رقم قد يبدو مبالغًا فيه، لكنه يسلط الضوء على التأثير العميق للتوتر الشديد على صحة القلب.

الوجبة المثالية المضادة للجلطات: استراتيجية غذائية متكاملة

بناءً على هذه الآلية، يقترح المتحدث وجبة محددة ليست لخفض الكوليسترول، بل لمواجهة هذه العاصفة الثلاثية. إنها وجبة مصممة لتقليل الالتهاب، وتقييد الحديد الحر، ودعم صحة الأمعاء، وتعزيز المركبات الطبيعية المضادة للتجلط.

1. أساس البروتين: سمك السلمون البري

بدلاً من اللحوم الحمراء التي تحتوي على نسبة عالية من الحديد، يوصي المتحدث بسمك السلمون البري. السبب مزدوج:

  • قليل الحديد نسبيًا: يحتوي على كمية أقل بكثير من الحديد مقارنة باللحم البقري.
  • غني بأحماض أوميغا 3: هذه الأحماض الدهنية معروفة بخصائصها المضادة للالتهابات والمضادة للتجلط، حيث تساعد على “تمييع” الدم. الدليل العلمي: تحليل تلوي (meta-analysis) ضخم نُشر في JAHA عام 2021 أكد أن تناول أحماض أوميغا 3 الدهنية يرتبط بانخفاض خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.

2. السلطة القوية: مزيج مضاد للجلطات

  • الجرجير (Arugula/Rocket): يصفه المتحدث بأنه “ملك” أكسيد النيتريك (Nitric Oxide). أكسيد النيتريك هو موسع قوي للأوعية الدموية ويمنع الصفائح الدموية من الالتصاق وتكوين الجلطات. (يُعرف الجرجير بنفس الاسم في معظم الدول العربية).
  • الشمندر (Beets): ثاني أغنى مصدر بأكسيد النيتريك. (يُعرف بالشمندر في الشام والخليج، والبنجر في مصر وشمال إفريقيا). الدليل العلمي: دراسة (مراجعة) منشورة في Nutrients عام 2015 تسلط الضوء على كيف أن النترات الغذائية من الخضروات الورقية والشمندر تزيد من إنتاج أكسيد النيتريك، مما يخفض ضغط الدم ويحسن صحة الأوعية الدموية.
  • زيت الزيتون البكر الممتاز (EVOO): غني بالبوليفينولات (Polyphenols)، وهي مركبات قوية مضادة للأكسدة والالتهابات. الأهم من ذلك، أن هذه البوليفينولات يمكن أن ترتبط بالحديد الحر (عملية تعرف بالاستخلاب أو Chelation)، مما يجعله غير متاح للميكروبات الممرضة.
  • خل التفاح (Apple Cider Vinegar): يقترح المتحدث أنه يساعد على “شد” الوصلات الضيقة في بطانة الأمعاء، مما يقلل من تسرب السموم الداخلية. الأدلة على هذا التأثير المحدد لا تزال أولية وتعتمد بشكل كبير على دراسات حيوانية، لكن حمض الأسيتيك في الخل معروف بفوائده الصحية العامة.
  • الثوم (Garlic): علاج قديم لصحة القلب. يحتوي الثوم على مركب الأليسين (Allicin) الذي له تأثيرات مضادة للتجلط ومضادة للميكروبات. كما أنه غني بالبوليفينولات التي تربط الحديد. (يُعرف الثوم عالميًا بهذا الاسم).

3. الدعم الميكروبي: الملفوف المخمر (Sauerkraut)

لتحييد السموم الداخلية (LPS) مباشرة في الأمعاء، يوصي المتحدث بإضافة ربع كوب من الملفوف المخمر. يحتوي الملفوف المخمر على بكتيريا حمض اللاكتيك (Lactic Acid Bacteria)، وهي نوع من البروبيوتيك. الدليل العلمي: دراسة (في المختبر) نشرت في Applied and Environmental Microbiology عام 2006 أظهرت أن سلالات معينة من بكتيريا اللاكتوباسيلس (Lactobacillus) قادرة على الارتباط بالسموم الداخلية وتحييدها بفعالية. بدائل أخرى تشمل شاي الكومبوتشا (Kombucha) أو عصير المخللات الطبيعية.

4. لمسات نهائية غنية بالبوليفينولات

لزيادة قدرة الجسم على ربط الحديد الحر، يوصي المتحدث بإضافة:

  • الشاي الأخضر أو الأسود: كلاهما غني بالبوليفينولات مثل الكاتيكين (Catechins) التي أظهرت قدرتها على استخلاب الحديد.
  • الشوكولاتة الداكنة (85% كاكاو أو أعلى): مصدر ممتاز آخر للبوليفينولات (الفلافانول). بالإضافة إلى ذلك، فهي غنية بالمغنيسيوم، وهو معدن حيوي لاسترخاء الشرايين، وتنظيم ضربات القلب، وخفض ضغط الدم. نقص المغنيسيوم شائع ويرتبط بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب.

ما بعد الوجبة: تعزيز الحماية

لا يتوقف الأمر عند الطعام. يوصي المتحدث بخطوتين بسيطتين بعد الوجبة لتعظيم الفائدة:

  1. المشي لمدة 10-20 دقيقة: التمرين بحد ذاته يساعد على إذابة الجلطات (عملية Fibrinolysis)، ويحسن حساسية الأنسولين، ويزيد من الأوكسجين.
  2. التنفس من الأنف: يزيد التنفس الأنفي من إنتاج أكسيد النيتريك في الجيوب الأنفية، مما يعزز من تأثيره المفيد على الأوعية الدموية.

آراء خبراء آخرين ونظرة الطب التقليدي

فكرة أن الالتهاب وصحة الأمعاء هما جوهر أمراض القلب ليست جديدة تمامًا وتلقى دعمًا متزايدًا. خبراء في الطب الوظيفي مثل الدكتور مارك هايمان والدكتور ديفيد بيرلماتر يركزون منذ سنوات على محور “الأمعاء-الدماغ” و”الأمعاء-القلب”، مؤكدين أن علاج الأمراض المزمنة يبدأ من إصلاح الجهاز الهضمي.

كما أن هناك أوجه تشابه مذهلة مع أنظمة الطب التقليدي:

  • الطب الصيني التقليدي (TCM): لطالما اعتبر “ركود الدم” (Blood Stasis) سببًا رئيسيًا للألم والأمراض، ويستخدم أعشابًا وأطعمة مثل الثوم والزنجبيل والكركم “لتحريك الدم” ومنع هذا الركود، وهو ما يوازي مفهوم منع التجلط.
  • الأيورفيدا (Ayurveda): يركز بشكل كبير على صحة الجهاز الهضمي (Agni أو النار الهضمية) باعتبارها أساس الصحة كلها. الأطعمة المخمرة والتوابل المضادة للالتهابات هي جزء لا يتجزأ من النظام الغذائي الأيورفيدي للحفاظ على “القنوات” (Srotas) في الجسم مفتوحة ونظيفة.

خلاصة

يقدم هذا النهج، المستند إلى أبحاث البروفيسور دوغلاس كيل، نموذجًا جديدًا ومقنعًا لفهم أمراض القلب والأوعية الدموية والوقاية منها. بدلاً من التركيز الحصري على الكوليسترول والدهون المشبعة، يدعونا إلى النظر بشكل أعمق إلى التفاعل المعقد بين الميكروبات في أجسامنا، ومستويات الحديد، وحالتنا النفسية. إنها دعوة للعودة إلى الأطعمة الكاملة، الغنية بالمركبات النباتية الواقية، والابتعاد عن الأطعمة المصنعة التي تغذي الالتهاب والمرض. قد لا تكون هذه الوجبة “علاجًا” سحريًا، ولكنها استراتيجية غذائية قوية، مدعومة بالعلم، لمواجهة الأسباب الجذرية لأخطر الأمراض في عصرنا.


تنويه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تثقيفية فقط ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائمًا استشارة الطبيب أو أخصائي الرعاية الصحية قبل إجراء أي تغييرات على نظامك الغذائي أو الصحي.