ماذا لو كان الشفاء من حصوات المرارة، تلك المشكلة الصحية المؤلمة والشائعة، يكمن في خزانة مطبخك؟ وماذا لو كانت الوقاية منها أسهل بكثير مما نتخيل، ولا تتطلب سوى تعديلات بسيطة على نظامنا الغذائي اليومي؟ هذه الفكرة قد تبدو بسيطة للغاية، لكنها تحمل في طياتها حقيقة علمية عميقة. يمكن أن يكون الطعام هو الدواء، وفي حالة حصوات المرارة، يبدو أن هذا المبدأ ينطبق بقوة.
في حديث له على يوتيوب، تناول الدكتور محمد عبد الجبار، وهو خبير في الطب الوظيفي والطب التكميلي من الولايات المتحدة، موضوع حصوات المرارة (Gallstones) الذي أصبح، على حد تعبيره، منتشراً بشكل وبائي تقريباً، خاصة بين النساء. يقدم الدكتور عبد الجبار رؤية شاملة حول أسباب تكون هذه الحصوات، والأهم من ذلك، كيف يمكننا تجنبها بشكل دائم ومنهجي، معتمداً على مكونات طبيعية ومتاحة للجميع، ومدعومة بالأدلة العلمية الحديثة.
لماذا تتكون حصوات المرارة؟ الأسباب الخفية وراء انتشارها
قبل الغوص في الحلول، من الضروري فهم جذور المشكلة. يوضح الدكتور عبد الجبار أن حصوات المرارة ليست قدراً محتوماً، بل هي نتيجة مباشرة لعدة عوامل تتعلق بنمط الحياة والنظام الغذائي.
1. زيادة الكوليسترول في النظام الغذائي: النقطة الأكثر إثارة للجدل التي يطرحها هي أن الأنظمة الغذائية الغنية بالكوليسترول والدهون المشبعة، مثل حمية الكيتو (Keto) والكارنيفور (Carnivore) التي تركز بشكل كبير على اللحوم والدهون الحيوانية، قد تكون سبباً رئيسياً في تكون حصوات المرارة. عندما يصبح سائل الصفراء (Bile)، الذي ينتجه الكبد ويخزن في المرارة للمساعدة في هضم الدهون، مشبعاً بالكوليسترول بشكل يفوق قدرة الأملاح الصفراوية على إذابته، يبدأ هذا الكوليسترول الزائد في التبلور وتكوين حصوات.
هذا الادعاء مدعوم علمياً بقوة. عند البحث في الأدبيات الطبية، نجد أن غالبية حصوات المرارة (حوالي 80%) هي حصوات كوليسترول. مراجعة علمية (Review) منشورة في مجلة Nature Reviews Disease Primers عام 2016 بعنوان “Gallstone disease” تؤكد أن فرط تشبع الصفراء بالكوليسترول هو العامل المبدئي الأساسي في تكون الحصوات. كما يتفق خبراء آخرون، مثل الدكتور مايكل غريغر، مؤلف كتاب “كيف لا نموت”، على أن الأنظمة الغذائية النباتية الكاملة تقلل بشكل كبير من خطر الإصابة بحصوات المرارة بسبب انخفاض محتواها من الكوليسترول وزيادة الألياف.
2. الخلل الهرموني وقلة الحركة: يشير الدكتور عبد الجبار إلى أن زيادة الوزن وقلة النشاط البدني يؤديان إلى خلل في المنظومة الهرمونية، وتحديداً زيادة هرمون الإستروجين (Estrogen). هذا هو السبب الرئيسي لكون النساء، خاصة خلال سنوات الإنجاب أو اللواتي يستخدمن العلاج الهرموني، أكثر عرضة للإصابة بحصوات المرارة بأضعاف الرجال. هرمون الإستروجين يزيد من إفراز الكوليسترول في الصفراء ويقلل من تقلصات المرارة، مما يخلق بيئة مثالية لتكون الحصوات.
دراسة سكانية واسعة (Population-based study) نُشرت في مجلة Hepatology عام 2009 وجدت أن النساء اللواتي لديهن مستويات أعلى من الإستروجين كن أكثر عرضة لتكوين حصوات المرارة، مما يدعم هذه الفرضية بقوة.
3. انخفاض نسبة الألياف في الطعام: العامل الثالث والحاسم هو غياب الألياف الغذائية (Dietary Fiber) الكافية في وجباتنا. تعمل الألياف القابلة للذوبان، الموجودة في البقوليات والشوفان والفواكه والخضروات، كإسفنجة في الجهاز الهضمي. فهي ترتبط بالأحماض الصفراوية والكوليسترول الزائد وتساعد على طردهما من الجسم عبر البراز، مما يمنع إعادة امتصاصهما وتراكمهما في المرارة. عندما يفتقر النظام الغذائي إلى الألياف، يزداد تركيز الكوليسترول في الصفراء، مما يرفع خطر تكون الحصوات.
تحليل تلوي (Meta-analysis) ضخم شمل عدة دراسات ونُشر في European Journal of Gastroenterology & Hepatology وجد أن تناول كميات كبيرة من الألياف يرتبط بانخفاض ملحوظ في خطر الإصابة بأمراض المرارة.
خطة الوقاية المتكاملة: كيف تحمي نفسك من حصوات المرارة إلى الأبد؟
يقدم الدكتور عبد الجبار استراتيجية وقائية بسيطة وفعالة تعتمد على أربعة محاور رئيسية، وكلها تبدأ من المطبخ.
1. تقليل الدهون المشبعة واستخدام الدهون الصحية: النصيحة الأولى هي التخلي عن القلي بالدهون الحيوانية المشبعة، مثل شحم الخروف، واستبدالها بزيوت صحية غير مشبعة. زيت الزيتون البكر الممتاز يأتي على رأس القائمة، فهو ليس فقط خالياً من الكوليسترول، بل يحتوي على مركبات مضادة للالتهابات مثل الأوليوكانثال (Oleocanthal). كما أن سلق البيض بدلاً من قليه، أو قليه بكمية قليلة من زيت الزيتون، يعد خياراً أفضل بكثير.
2. زيادة استهلاك الألياف بشكل يومي: يجب أن تكون الألياف هي حجر الزاوية في أي نظام غذائي صحي. ينصح الدكتور بإدراج البقوليات (حمص، عدس، فاصوليا)، المكسرات النيئة، الخضروات الورقية (سبانخ، جرجير)، والفواكه بكثرة. يخص بالذكر الحمضيات مثل البرتقال، التي تحتوي على ألياف البكتين (Pectin) المفيدة.
3. الكركم: المكون الذهبي لصحة المرارة: وهنا تأتي إحدى أقوى النصائح وأكثرها إثارة للاهتمام. يوصي الدكتور عبد الجبار بتناول نصف ملعقة إلى ملعقة شاي صغيرة (حوالي 1-2 غرام) من مسحوق الكركم الكامل (وليس مكمل الكركمين المركّز) يومياً مع الطعام. يشرح أن الكركم يحفز المرارة على التقلص وإفراغ محتوياتها من سائل الصفراء بانتظام. هذه العملية، التي تسمى (Gallbladder Motility)، تمنع ركود الصفراء وتجمع الكوليسترول، وبالتالي تمنع تكون الحصوات من الأساس.
عند البحث عن دليل علمي، نجد أن هذه الفكرة ليست مجرد حكمة تقليدية. دراسة بشرية (Human study) صغيرة ولكنها مهمة نُشرت في مجلة HPB (Oxford) عام 2013، فحصت تأثير الكركمين (المكون النشط في الكركم) على وظيفة المرارة. وجدت الدراسة أن الكركمين أدى إلى انخفاض كبير في حجم المرارة، مما يشير إلى أنه يحفز تقلصها وإفراغها. هذا التأثير يجد أصداءً في الطب الهندي القديم (الأيورفيدا)، حيث يُستخدم الكركم (المعروف باسم “Haridra”) منذ آلاف السنين لتطهير الكبد وتحسين تدفق الصفراء.
4. المذيبات الطبيعية: الليمون، خل التفاح، والثوم: يقترح الدكتور عبد الجبار دمج ثلاثة مكونات طبيعية قوية في النظام الغذائي، ليس فقط للوقاية، بل للمساعدة في إذابة الحصوات الصغيرة أو “الرمل” قبل أن تتطور.
- الليمون: غني بحمض الستريك (Citric Acid)، والذي يُعتقد أنه يساعد في إذابة حصوات الكالسيوم ومنع تكونها.
- خل التفاح: يشدد الدكتور على نقطة حاسمة: يجب تناول خل التفاح مع الطعام (ملعقتان كبيرتان على السلطة أو الأرز مثلاً)، وليس شربه مع الماء على معدة فارغة كما يروج البعض، لتجنب خطر الإصابة بقرحة المعدة. يستشهد بالحديث النبوي “نعم الإدام الخل”، مؤكداً أنه كان طعاماً وليس شراباً. حمض الأسيتيك (Acetic Acid) في الخل قد يساعد في تقليل إنتاج الكبد للكوليسترول. الأدلة العلمية المباشرة على تأثير خل التفاح على حصوات المرارة لدى البشر لا تزال محدودة وتعتبر في الغالب قصصية (anecdotal)، ولكن استخدامه كجزء من نظام غذائي صحي لا ضرر منه.
- الثوم والبصل: يعتبر الثوم الطازج من أقوى المذيبات الطبيعية. يحتوي على مركب الأليسين (Allicin)، الذي أظهرت دراسات حيوانية (Animal studies) قدرته على خفض مستويات الكوليسترول في الدم والكبد. دراسة نُشرت في Journal of Agricultural and Food Chemistry وجدت أن الثوم يمنع تراكم الكوليسترول، مما قد يساهم في الوقاية من الحصوات. يتفق العديد من خبراء الطب الطبيعي، مثل الدكتور جوش آكس، على أن الثوم هو إضافة قوية لأي نظام غذائي يهدف إلى دعم صحة الكبد والمرارة.
تحذير هام لمن يعانون بالفعل من حصوات المرارة
على الرغم من فعالية هذه الطرق في الوقاية، يوجه الدكتور عبد الجبار تحذيراً قوياً لأي شخص تم تشخيصه بالفعل بحصوات المرارة: لا تبدأ أي علاج طبيعي يهدف إلى “تفتيت” أو “إذابة” الحصوات دون استشارة طبيبك. الخطر يكمن في أن شظايا الحصوات قد تتحرك وتسد القناة الصفراوية (Bile Duct)، مما يسبب حالة طبية طارئة ومؤلمة للغاية تتطلب تدخلاً جراحياً فورياً. الطبيب هو الأقدر على تقييم حجم الحصوات وموقعها وتحديد الخيار العلاجي الأنسب والأكثر أماناً.
خلاصة القول: الطب الحقيقي يبدأ من المطبخ
الرسالة النهائية التي يتركها الدكتور محمد عبد الجبار واضحة وقوية: الوقاية من حصوات المرارة ليست معقدة ولا مكلفة. إنها تعتمد على العودة إلى الأساسيات: نظام غذائي غني بالألياف النباتية، والدهون الصحية، ومجموعة من الأطعمة الوظيفية الفائقة مثل الكركم، والثوم، والليمون، وخل التفاح. من خلال تبني هذه العادات، لا نحمي أنفسنا من حصوات المرارة فحسب، بل نعزز صحتنا العامة ونقلل من خطر الإصابة بالعديد من الأمراض المزمنة الأخرى.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة للأغراض التثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائماً استشارة الطبيب قبل إجراء أي تغييرات على نظامك العلاجي أو الغذائي.