قد يكون مفاجئًا للبعض أن صحة عضو صغير بحجم الكمثرى مثل المرارة يمكن أن تكون مفتاحًا لراحة الجهاز الهضمي بأكمله. لكن الحقيقة هي أن ملايين الأشخاص حول العالم يعانون من مشاكل في المرارة، وأشهرها حصوات المرارة المؤلمة، والتي قد تتطلب تغييرات جذرية في نمط الحياة أو حتى تدخلاً جراحيًا. في مقطع فيديو حديث على يوتيوب، سلط متحدث الضوء على جانب مهم من هذه القضية، وهو النظام الغذائي، وتحديدًا قائمة الفواكه التي قد تكون ضارة أو نافعة لمن يعانون من مشاكل في المرارة. هذا المقال يغوص في تفاصيل هذه الادعاءات، ويفحص الأدلة العلمية المتاحة، ويقدم رؤية شاملة ومتوازنة.

دور المرارة: مصنع صغير بوظيفة كبيرة

قبل الخوض في تفاصيل النظام الغذائي، من الضروري فهم الدور الذي تلعبه المرارة (Gallbladder). تقع المرارة أسفل الكبد مباشرة، وتعمل كخزان صغير لتخزين وتركيز العصارة الصفراوية (Bile) التي ينتجها الكبد. هذه العصارة ضرورية لهضم الدهون في الأمعاء الدقيقة. عندما نتناول وجبة تحتوي على دهون، يتم إرسال إشارة هرمونية (هرمون الكوليسيستوكينين أو CCK) إلى المرارة لتنقبض وتطلق العصارة الصفراوية في الأمعاء، مما يساعد على تكسير الدهون وامتصاص الفيتامينات الذائبة فيها (مثل فيتامينات A, D, E, K).

تحدث المشكلة عندما يتصلب سائل الصفراء مكونًا جزيئات صلبة تُعرف بحصوات المرارة (Gallstones). يمكن أن تكون هذه الحصوات صغيرة مثل حبة الرمل أو كبيرة مثل كرة الغولف، وقد لا تسبب أي أعراض، ولكنها في بعض الحالات يمكن أن تسد القنوات الصفراوية وتسبب ألمًا شديدًا والتهابًا ومضاعفات أخرى.

الفواكه الممنوعة: تحليل نقدي لما ورد في الفيديو

ركز المتحدث في الفيديو على أن الأطعمة الغنية بالدهون هي العدو الأول للمرارة، وهو أمر يتفق عليه معظم الخبراء. فالدهون تحفز المرارة على الانقباض، وإذا كانت هناك حصوات، فإن هذا الانقباض قد يسبب ألمًا حادًا. بناءً على هذا المبدأ، حدد المتحدث بعض الفواكه التي يجب تجنبها.

1. الأفوكادو: هل هو حقًا فاكهة محظورة؟

ذكر المتحدث أن الأفوكادو، على الرغم من فوائده الصحية العديدة، يجب تجنبه بسبب محتواه العالي من الدهون. من الناحية الفنية، هذا صحيح؛ فالأفوكادو غني بالدهون. لكن من المهم التمييز بين أنواع الدهون. يحتوي الأفوكادو بشكل أساسي على الدهون الأحادية غير المشبعة (Monounsaturated Fats)، وهي دهون صحية للقلب ومضادة للالتهابات.

عند البحث عن أدلة علمية، نجد أن الصورة أكثر تعقيدًا. لم أجد دراسات تربط مباشرة بين استهلاك الأفوكادو وتفاقم أمراض المرارة. على العكس، تشير بعض الأبحاث إلى أن الأنظمة الغذائية الغنية بالدهون الصحية قد تكون مفيدة. على سبيل المثال، وجدت دراسة منشورة في “Annals of Internal Medicine” أن الأنظمة الغذائية الغنية بالدهون الأحادية غير المشبعة والدهون المتعددة غير المشبعة قد تقلل من خطر الإصابة بحصوات المرارة. الرأي السائد بين خبراء التغذية، مثل الدكتور أندرو ويل، هو أن الدهون الصحية باعتدال ضرورية، ولكن يجب على مرضى المرارة تجنب الوجبات الكبيرة عالية الدهون دفعة واحدة. لذلك، قد لا يكون من الضروري تجنب الأفوكادو تمامًا، بل تناوله بكميات صغيرة ومراقبة رد فعل الجسم.

2. الفواكه المعلبة والمجمدة: سوء فهم شائع

نصح المتحدث بالابتعاد عن الفواكه المعلبة والمجمدة لأنها “تجعل من الصعب على المرارة القيام بعملها”. هذا الادعاء يفتقر إلى الدقة العلمية. الفواكه المجمدة، إذا لم تكن تحتوي على إضافات، تحتفظ بقيمتها الغذائية بشكل كبير وتعتبر بديلًا ممتازًا للفواكه الطازجة.

المشكلة الحقيقية تكمن في الفواكه المعلبة التي غالبًا ما تكون محفوظة في شراب سكري عالي التركيز. السكر المضاف هو المشكلة هنا، وليس الفاكهة نفسها. تشير العديد من الدراسات إلى وجود صلة قوية بين استهلاك السكريات المكررة وزيادة خطر الإصابة بحصوات المرارة. وجدت دراسة مراجعة (Review study) نشرت في “The American Journal of Gastroenterology” أن الأنظمة الغذائية عالية السكر ومنخفضة الألياف تزيد من خطر تكون حصوات الكوليسترول في المرارة. لذلك، النصيحة الأدق هي قراءة الملصقات الغذائية واختيار الفواكه المعلبة في الماء أو عصيرها الطبيعي بدلاً من الشراب السكري.

3. الفواكه عالية السكر: الموز الناضج كمثال

أشار المتحدث إلى ضرورة تقليل الفواكه عالية السكر، وضرب مثالاً بالموز الناضج. في حين أن الموز منخفض الدهون، إلا أن محتواه من السكر يزداد كلما نضج. العلاقة بين السكر وصحة المرارة موثقة جيدًا. الأنظمة الغذائية ذات المؤشر الجلايسيمي المرتفع (High Glycemic Index)، والتي تسبب ارتفاعًا سريعًا في نسبة السكر في الدم، يمكن أن تزيد من تركيز الكوليسترول في العصارة الصفراوية، مما يهيئ الظروف لتكوّن الحصوات.

عند البحث عن أدلة، وجدت دراسة بشرية (Human study) كبيرة أجريت على الرجال ونشرت في “American Journal of Clinical Nutrition” أن الرجال الذين يستهلكون كميات كبيرة من الكربوهيدرات المكررة لديهم خطر أعلى للإصابة بحصوات المرارة. على الرغم من أن سكر الفاكهة (الفركتوز) طبيعي، إلا أن استهلاكه بكميات كبيرة جدًا قد يساهم في المشكلة، خاصة لدى الأشخاص الذين يعانون من مقاومة الأنسولين. النصيحة هنا هي الاعتدال، وتفضيل الفواكه ذات المؤشر الجلايسيمي المنخفض مثل التوتيات والكرز.

الفواكه المسموحة: أصدقاء المرارة

على الجانب الآخر، قدم المتحدث قائمة بالفواكه المفيدة، والتي تتميز بانخفاض دهونها وغناها بالألياف والعناصر الغذائية الداعمة لصحة المرارة.

1. الألياف وفيتامين C والمغنيسيوم والفولات

ذكر المتحدث أن الفواكه الغنية بالألياف، فيتامين C، المغنيسيوم، والفولات تعزز صحة المرارة. هذا الادعاء مدعوم بقوة من الأبحاث العلمية:

  • الألياف: تساعد الألياف القابلة للذوبان على وجه الخصوص في تقليل امتصاص الكوليسترول ودعم عملية الهضم، مما يقلل العبء على المرارة.
  • فيتامين C: هذا الفيتامين ضروري لتحويل الكوليسترول إلى أحماض صفراوية. عندما يكون هناك نقص في فيتامين C، يمكن أن يتراكم الكوليسترول في العصارة الصفراوية. دراسة بشرية (Human study) نشرت في “Hepatology” وجدت أن النساء اللواتي لديهن مستويات أعلى من فيتامين C في الدم كن أقل عرضة للإصابة بحصوات المرارة. الحمضيات (البرتقال، الليمون، الجريب فروت)، الفراولة، والكيوي هي مصادر ممتازة.
  • المغنيسيوم: يلعب هذا المعدن دورًا في استرخاء العضلات، بما في ذلك العضلات الملساء في المرارة، وقد يساعد في منع تكون الحصوات. دراسة سكانية (Population study) واسعة النطاق وجدت أن تناول كميات كافية من المغنيسيوم يرتبط بانخفاض خطر الإصابة بحصوات المرارة لدى الرجال. يوجد المغنيسيوم في الموز والأفوكادو (باعتدال) وبعض الخضروات الورقية.
  • الفولات (Folate): هو أحد فيتامينات B، وقد يساعد في الحفاظ على صحة الكبد والمرارة.

من الفواكه التي ذكرها المتحدث وتتوافق مع هذه المعايير: التفاح، الكمثرى (الإجاص في بلاد الشام)، المشمش، التوت البري (يُعرف أحيانًا باسم عنب الدب)، والحمضيات.

رؤى من الطب التقليدي وخبراء آخرين

من المثير للاهتمام أن نرى كيف تتوافق هذه التوصيات مع أنظمة الطب التقليدية.

  • في الطب الصيني التقليدي (TCM): ترتبط المرارة ارتباطًا وثيقًا بالكبد، وتعتبر مسؤولة عن “اتخاذ القرار” والشجاعة. من منظور غذائي، يوصي الطب الصيني بتجنب الأطعمة الدهنية والمقلية ومنتجات الألبان والسكر المفرط، لأنها تسبب “ركودًا” في طاقة الكبد والمرارة. ويتم تشجيع تناول الأطعمة ذات الطبيعة “المبردة” مثل الكمثرى والتفاح والحمضيات.
  • في الأيورفيدا (Ayurveda): ترتبط مشاكل المرارة بزيادة “بيتا دوشا” (Pitta Dosha)، وهي الطاقة المرتبطة بالنار والهضم والتمثيل الغذائي. لتهدئة “بيتا”، يوصى بتناول الأطعمة الحلوة (بشكل طبيعي، مثل الفواكه الحلوة)، والقابضة (مثل التفاح والرمان)، والمرّة (مثل الخضروات الورقية)، مع تجنب الأطعمة الحارة والمالحة والدهنية.

يتفق خبراء التغذية المعاصرون، مثل الدكتور جوش آكس، على أهمية النظام الغذائي الغني بالألياف من الفواكه والخضروات، والبروتينات الخالية من الدهون، والدهون الصحية باعتدال، مع التركيز على الأطعمة الكاملة غير المصنعة.

نصائح عملية لنمط حياة صديق للمرارة

بناءً على ما سبق، يمكن تلخيص النصائح العملية في النقاط التالية:

  1. الاعتدال هو المفتاح: حتى الفواكه الصحية يجب تناولها باعتدال. تجنب الوجبات الكبيرة جدًا التي تضع ضغطًا على الجهاز الهضمي.
  2. الترطيب أساسي: شرب كمية كافية من الماء (8-10 أكواب يوميًا) يساعد في الحفاظ على سيولة العصارة الصفراوية ويقلل من خطر تكون الحصوات.
  3. اختر الدهون بحكمة: استبدل الدهون المشبعة والمتحولة بالدهون الصحية الموجودة في زيت الزيتون والمكسرات والبذور والأسماك الدهنية، ولكن بكميات معتدلة.
  4. احتفظ بمفكرة طعام: كما اقترح المتحدث، يمكن أن يساعدك تدوين ما تأكله وكيف تشعر بعد ذلك في تحديد الأطعمة التي تثير الأعراض لديك.
  5. التحكم في الوزن: السمنة هي أحد عوامل الخطر الرئيسية لحصوات المرارة. فقدان الوزن بشكل تدريجي (وليس سريعًا) يمكن أن يقلل من هذا الخطر.
  6. استشر طبيبك: قبل إجراء أي تغييرات كبيرة على نظامك الغذائي، خاصة إذا كنت تعاني من أعراض نشطة، من الضروري استشارة الطبيب أو أخصائي التغذية.

تنويه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تثقيفية فقط ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائمًا استشارة الطبيب المختص قبل اتخاذ أي قرارات تتعلق بصحتك.