في عصرنا الحالي، أصبح من الشائع أن نسمع عن انتشار واسع لنقص فيتامين “د” وفيتامين “ب12”، حتى تحول الأمر إلى ما يشبه الوباء الصامت. لكن ماذا لو كانت الأسباب التي تُطرح عادةً، مثل قلة التعرض للشمس أو عدم تناول اللحوم، مجرد جزء صغير من الحقيقة؟ ماذا لو كانت المشكلة أعمق وتكمن في صميم وظائف أجسادنا التي تأثرت بنمط الحياة الحديث؟
في مقطع فيديو حديث، طرح الدكتور محمد فايد، الخبير في علوم التغذية والأغذية، وجهة نظر جذرية ومختلفة حول هذه المعضلة. يرى الدكتور فايد أن نقص هذين الفيتامينين ليس مجرد نقص غذائي بسيط، بل هو عرض لمشكلة أعمق تتعلق بـ “تسمم الجسم” وضعف في وظائف الأعضاء الحيوية كالكبد والكلية والمعدة. هذا المقال يستعرض بالتفصيل النقاط التي أثارها، مع تدعيمها بالأدلة العلمية المتاحة وآراء خبراء آخرين، لتقديم فهم شامل لهذه القضية الصحية المعقدة.
لغز فيتامين “د”: هل الشمس هي السبب الوحيد حقًا؟
من المعروف أن فيتامين “د” يلعب دورًا حيويًا في صحة الإنسان، فهو ليس مجرد فيتامين، بل هو هرمون ستيرويدي يؤثر على مئات الجينات في الجسم. وظيفته الأساسية تتعلق بتنظيم مستويات الكالسيوم والفوسفور، مما يجعله ضروريًا لصحة العظام. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر فيتامين “د” حجر الزاوية في عمل الجهاز المناعي، حيث يساعد على تنظيم الاستجابات المناعية ومكافحة العدوى.
لكن الدكتور فايد يطرح تساؤلاً جريئًا: هل نقص التعرض لأشعة الشمس هو السبب الحقيقي وراء تفشي نقص فيتامين “د”؟ يجيب على هذا التساؤل بالنفي، معتبرًا أن هذه الفكرة هي “القشة التي يتعلق بها الطب الحديث”. من وجهة نظره، خلق الله سبحانه وتعالى تكيفًا مذهلاً في لون بشرة الإنسان لضمان إنتاج كافٍ من فيتامين “د” حسب الموقع الجغرافي.
- البشرة الفاتحة: في المناطق الشمالية الباردة التي تقل فيها أشعة الشمس (مثل الدول الاسكندنافية وروسيا)، تكون بشرة السكان فاتحة. هذه البشرة تتميز بقدرتها العالية على إنتاج فيتامين “د” من كمية قليلة من الأشعة فوق البنفسجية (UVB)، مما يعوض قلة سطوع الشمس.
- البشرة الداكنة: في المناطق الاستوائية الحارة والغنية بأشعة الشمس (مثل إفريقيا)، تكون البشرة داكنة. صبغة الميلانين الداكنة تعمل كواقٍ شمسي طبيعي، حيث تحد من امتصاص الأشعة فوق البنفسجية، مما يحمي الجلد من أضرارها وسرطان الجلد، وفي نفس الوقت تسمح بإنتاج الكمية الكافية من فيتامين “د” نظرًا لوفرة الشمس.
هذه النظرية تتوافق مع الأبحاث في مجال الأنثروبولوجيا البيولوجية. ففي مراجعة علمية منشورة في مجلة Evolution: Education and Outreach عام 2010، أوضح الباحثون أن لون البشرة هو نتاج توازن تطوري بين الحاجة إلى حماية الجسم من الأشعة فوق البنفسجية الضارة والحاجة إلى تصنيع فيتامين “د”.
السبب الحقيقي حسب الدكتور فايد: تسمم الكبد والكلية
إذا لم تكن الشمس هي المشكلة الرئيسية، فما هو السبب إذن؟ يوجه الدكتور فايد أصابع الاتهام إلى صحة الكبد والكلية. عملية إنتاج فيتامين “د” في الجسم معقدة؛ فهي تبدأ في الجلد عند التعرض للأشعة فوق البنفسجية، لكن الشكل الأولي للفيتامين يكون غير نشط. لكي يصبح فعالاً، يجب أن يمر بمرحلتي تنشيط:
- المرحلة الأولى: تحدث في الكبد، حيث يتم تحويله إلى “كالسيديول” (Calcidiol).
- المرحلة الثانية: تحدث في الكلية، حيث يتحول إلى “كالسيتريول” (Calcitriol)، وهو الشكل النشط والفعال من فيتامين “د”.
لذلك، إذا كان الكبد متسممًا أو كانت الكلية لا تعمل بكفاءة، فلن يتمكن الجسم من إنتاج الشكل النشط من فيتامين “د”، حتى لو تعرض لأشعة الشمس بكميات كافية. ويشير إلى أن السموم الحديثة، مثل المعادن الثقيلة (الرصاص، الزئبق، الكادميوم) والمبيدات الحشرية، تتراكم في الخلايا الدهنية تحت الجلد، مما يعيق عملية التصنيع الأولية للفيتامين.
هذا الرأي يجد دعمًا قويًا في الأوساط الطبية. من الثابت علميًا أن أمراض الكبد المزمنة وأمراض الكلى المزمنة هي من الأسباب الرئيسية لنقص فيتامين “د”. مراجعة شاملة نشرت في Journal of Clinical Endocrinology & Metabolism أكدت أن مرضى الكلى المزمن يعانون بشكل شبه دائم من نقص فيتامين “د” النشط بسبب تراجع قدرة الكلية على إتمام عملية التنشيط النهائية.
فيتامين “ب12”: المشكلة ليست في غذائك بل في معدتك
ينتقل الدكتور فايد إلى فيتامين “ب12”، مؤكدًا وجود علاقة وثيقة بينه وبين فيتامين “د”، فالنقص في أحدهما غالبًا ما يصاحبه نقص في الآخر. فيتامين “ب12” ضروري لصحة الجهاز العصبي، وتكوين خلايا الدم الحمراء، ووظائف الدماغ.
الفكرة الشائعة هي أن نقص “ب12” يحدث بسبب عدم تناول كميات كافية من المصادر الحيوانية. لكن الدكتور فايد يرفض هذه الفكرة أيضًا، مؤكدًا أن المشكلة الحقيقية تكمن في المعدة وعملية الامتصاص.
لامتصاص فيتامين “ب12” من الطعام، تحتاج المعدة إلى إفراز بروتين خاص يسمى “العامل الداخلي” (Intrinsic Factor). هذا البروتين يرتبط بفيتامين “ب12” ويحميه من التحلل في الجهاز الهضمي، ثم يساعد على امتصاصه في الأمعاء الدقيقة.
المشكلة، كما يوضح، هي أن العديد من الأشخاص يعانون من مشاكل في المعدة تعطل إنتاج هذا العامل الداخلي، وأهم هذه المشاكل هي الإصابة بجرثومة المعدة (Helicobacter pylori). هذه الجرثومة تسبب التهابًا مزمنًا في بطانة المعدة (Atrophic gastritis)، مما يؤدي إلى تدمير الخلايا التي تفرز حمض المعدة والعامل الداخلي.
هذه العلاقة موثقة علميًا بشكل واسع. دراسة تحليلية (Meta-analysis) نشرت في مجلة World Journal of Gastroenterology خلصت إلى وجود ارتباط قوي بين الإصابة بجرثومة المعدة ونقص فيتامين “ب12”. ولهذا السبب، غالبًا ما يتم إعطاء حقن فيتامين “ب12” للمرضى، لأنها تتجاوز الجهاز الهضمي وتدخل مباشرة إلى مجرى الدم، ولكن هذا يبقى حلاً ترقيعيًا لا يعالج السبب الجذري.
الحلول الطبيعية المقترحة: نهج متكامل لتنظيف الجسم
بناءً على تشخيصه للأسباب الجذرية، يقدم الدكتور فايد بروتوكولًا طبيعيًا يهدف إلى تنظيف الجسم واستعادة وظائف الأعضاء الحيوية.
1. حل مشكلة نقص فيتامين “د” (عبر دعم الكبد والكلية):
- تنظيف الجسم (Detox): اتباع نظام غذائي نباتي لمدة أسبوع إلى أسبوعين، مع التركيز على الخضروات والفواكه النيئة بنسبة 60-70%. يجب التوقف التام عن اللحوم والأطعمة المصنعة.
- دعم الكبد:
    - الخرشوف (Artichoke): خاصة جذور الخرشوف البري، فهو يحتوي على مادة السيليمارين (Silymarin) التي تحمي وتجدد خلايا الكبد.
- شوك الحليب (Milk Thistle): يسميه الدكتور فايد “شوكة حمار”، وهو من أشهر الأعشاب لدعم الكبد. مراجعة علمية نشرت في World Journal of Hepatology أكدت أن السيليمارين، المكون النشط في شوك الحليب، له خصائص مضادة للأكسدة ومضادة للالتهابات تحمي الكبد من التلف.
- البنجر (الباربا): يطحن طازجًا ويشرب كعصير.
 
- دعم الكلية:
    - شرب كميات كافية من الماء الدافئ (لتر إلى لتر وربع) على الريق صباحًا.
- تناول الخضروات الورقية الخضراء مثل البقدونس، سواء في السلطات أو العصائر.
 
- المكملات الأساسية:
    - حمض الأوميغا 3: يصر الدكتور فايد على أن تناول فيتامين “د” كمكمل بدون أوميغا 3 هو نصف الحل. يوصي بجرعة عالية (4-5 غرامات يوميًا). الأوميغا 3 ضروري لعمل الكبد ويساعد في ضبط الهرمونات. دراسة بشرية نشرت في The American Journal of Clinical Nutrition وجدت أن الجمع بين أوميغا 3 وفيتامين “د” كان له تأثيرات إيجابية أكبر على صحة القلب والأوعية الدموية من تناول أي منهما بمفرده.
- عكبر النحل (Propolis) وغذاء الملكات.
 
2. حل مشكلة نقص فيتامين “ب12” (عبر إصلاح المعدة):
- القضاء على جرثومة المعدة:
    - النظام الغذائي: التوقف الفوري عن “النظام الحديث” الذي يشمل: الخبز الأبيض، السكر، الزيوت المكررة، المقليات، الحلويات، اللحوم المصنعة، ومنتجات الألبان. يجب الطبخ بزيت الزيتون البكر، والإكثار من الخضار والفواكه، وممارسة الصيام.
- المكملات القوية:
        - عكبر النحل (Propolis): يعتبره الدكتور فايد من أقوى المواد الطبيعية المضادة للميكروبات. دراسة مخبرية (in vitro) نشرت في Journal of Enzyme Inhibition and Medicinal Chemistry أظهرت أن البروبوليس له نشاط قوي ضد سلالات متعددة من جرثومة المعدة.
- البروبيوتيك (Probiotics): البكتيريا الصديقة التي تساعد على استعادة توازن الميكروبيوم في الأمعاء ومحاربة الجراثيم الضارة.
 
- الأعشاب والنباتات المساعدة:
        - المستكة (علك الضرو): معروفة في الطب التقليدي بقدرتها على محاربة جرثومة المعدة.
- الزعتر، البردقوش، والحلبة.
 
 
آراء خبراء آخرين وتطابق مع الطب التقليدي
وجهة نظر الدكتور فايد تتناغم بشكل كبير مع مبادئ الطب الوظيفي (Functional Medicine)، الذي يركز على البحث عن الأسباب الجذرية للأمراض بدلاً من معالجة الأعراض فقط. خبراء عالميون مثل الدكتور مارك هايمان (Dr. Mark Hyman) يؤكدون دائمًا أن صحة الجهاز الهضمي (“القولون”) هي أساس الصحة العامة، وأن الالتهابات المزمنة والتسمم البيئي هما منبع معظم الأمراض الحديثة.
كما أن هذا النهج يجد أصداءً في أنظمة الطب التقليدية القديمة:
- في الأيورفيدا (الطب الهندي التقليدي): يُنظر إلى تراكم السموم “آما” (Ama) وضعف “أغني” (Agni) أو “نار الهضم” على أنهما السبب الرئيسي للأمراض. عملية “التنظيف” التي يقترحها الدكتور فايد تشبه إلى حد كبير “البانشاكارما” (Panchakarma)، وهي عملية تطهير عميقة في الأيورفيدا.
- في الطب الصيني التقليدي: يعتبر الكبد والكلية من الأعضاء الحيوية المسؤولة عن تدفق الطاقة (Qi) وتصفية الدم. أي خلل فيهما يؤثر على الجسم بأكمله.
خلاصة القول
يقدم الدكتور محمد فايد رؤية شاملة وعميقة لمشكلة نقص فيتامين “د” و”ب12”، تتجاوز التفسيرات السطحية. فالمشكلة ليست مجرد نقص في التعرض للشمس أو في الغذاء، بل هي انعكاس لحالة من الإرهاق والتسمم تعاني منها أعضاء حيوية مثل الكبد والكلية والمعدة، نتيجة لنمط الحياة الحديث المليء بالسموم والأغذية المصنعة. الحل، من وجهة نظره، لا يكمن في ابتلاع المكملات كحل سحري، بل في تبني نهج متكامل يبدأ بتنظيف الجسم، وإصلاح الجهاز الهضمي، والعودة إلى نظام غذائي طبيعي ومتوازن، مع الاستعانة بمكملات طبيعية قوية تدعم هذه العملية.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائمًا استشارة الطبيب أو أخصائي الرعاية الصحية المؤهل قبل اتخاذ أي قرارات تتعلق بصحتك.