ماذا لو كانت غالبية الأمراض المزمنة في عصرنا، من السكري وأمراض القلب إلى الخرف، تنبع جميعها من سبب جذري واحد يمكن الوقاية منه؟ ماذا لو كان الطعام الذي نحتفل به ونتشاركه يومياً يمهد الطريق بصمت لسلسلة من الكوارث الصحية؟ قد تبدو هذه الأسئلة مقلقة، لكنها تطرح نقطة حيوية حول علاقتنا بنظامنا الغذائي الحديث.

في مقطع فيديو حديث، أطلق الدكتور ضياء الدين تحذيراً قوياً حول ما وصفه بالسبب المباشر لأمراض العصر: متلازمة الأيض (Metabolic Syndrome). يوضح الدكتور أن هذه المتلازمة ليست مرضاً واحداً، بل هي مجموعة من الحالات الصحية الخطيرة التي تظهر معاً، مترابطة بشكل وثيق، وتتطور نتيجة لنمط حياة أصبح شائعاً بشكل خطير. إنها قصة تبدأ بخطوة واحدة خاطئة وتتطور لتصبح سلسلة من المشاكل الصحية التي تؤثر على ملايين الأشخاص، بما في ذلك الشباب والأطفال.

القصة تبدأ بالسكر: سوء فهم شائع

كثيراً ما يُدافع عن السكر بالقول إنه مصدر أساسي للطاقة. يتكون سكر المائدة (السكروز) من 50% جلوكوز، وهو وقود الخلايا، و50% فركتوز، وهو سكر الفاكهة. يطرح الدكتور ضياء سؤالاً بلاغياً: كيف يمكن لشيء طبيعي أن يكون ضاراً؟

ويجيب موضحاً أن المشكلة لا تكمن في السكر الموجود في صورته الطبيعية، كما في الفواكه الكاملة. فالتفاحة مثلاً تحتوي على الفركتوز، لكنها تأتي مع حزمة متكاملة من الألياف والفيتامينات والمعادن. هذه الألياف تبطئ عملية امتصاص السكر، مما يمنع حدوث ارتفاع مفاجئ وحاد في مستويات السكر في الدم.

المشكلة الحقيقية، كما يؤكد، بدأت مع اختراع السكر المكرر وإضافته بكميات هائلة إلى كل شيء تقريباً في نظامنا الغذائي. لم يعد الأمر يقتصر على ملعقة السكر في الشاي أو القهوة. السكر اليوم “مختبئ” في كل مكان: المخبوزات، المعجنات، الأرز الأبيض، المكرونة، المشروبات الغازية، العصائر المصنعة، والوجبات السريعة (Junk Food). هذا الاستهلاك المفرط والمستمر هو الذي يشعل فتيل الأزمة الصحية.

الشلة المدمرة: الأمراض الثمانية لمتلازمة الأيض

يصف الدكتور ضياء الدين أمراض متلازمة الأيض بأنها “شلة أصحاب” لا يفترقون. ما إن يظهر الأول، حتى يتبعه الآخرون. وهذه هي المراحل التي يمر بها الجسم، كما شرحها:

1. مقاومة الإنسولين (Insulin Resistance)

هي الشرارة الأولى وبوابة الأمراض الأخرى. عند تناول كميات كبيرة من السكريات والكربوهيدرات المكررة، يرتفع مستوى السكر في الدم بشكل كبير. استجابة لذلك، يفرز البنكرياس هرمون الإنسولين، الذي تتمثل وظيفته في نقل الجلوكوز من الدم إلى داخل الخلايا لاستخدامه كطاقة.

مع استمرار هذا القصف السكري، ترهق الخلايا وتصبح أقل استجابة للإنسولين، فتبدأ في مقاومته. يقول الدكتور ضياء: “الخلايا نفسها تقول لك كفاية”. حينها، يضطر البنكرياس إلى إفراز المزيد والمزيد من الإنسولين في محاولة يائسة لإدخال الجلوكوز إلى الخلايا. هذه الحالة من ارتفاع الإنسولين في الدم هي ما يعرف بـ “مقاومة الإنسولين”.

الأدلة العلمية: هذا المفهوم مدعوم بقوة في الأوساط العلمية. يعتبره الكثيرون المحرك الرئيسي لمتلازمة الأيض والسكري من النوع الثاني. مراجعة علمية (Review) نُشرت في مجلة Physiological Reviews عام 2018 تحت عنوان “Insulin resistance and hyperinsulinemia” خلصت إلى أن فرط الإنسولين في الدم (Hyperinsulinemia) ليس مجرد نتيجة لمقاومة الإنسولين، بل هو أيضاً مساهم نشط في تفاقمها وتطور الأمراض المرتبطة بها. يتفق مع هذا الرأي خبراء عالميون مثل الدكتور جيسون فونغ (Dr. Jason Fung)، الذي يركز في كتبه على أن التحكم في الإنسولين هو مفتاح علاج السمنة والسكري.

2. متلازمة تكيس المبايض (PCOS)

لدى النساء، تعتبر مقاومة الإنسولين أحد الأسباب الرئيسية لمتلازمة تكيس المبايض. يوضح الدكتور ضياء أن ارتفاع مستوى الإنسولين بشكل مزمن يؤدي إلى خلل هرموني، حيث يحفز المبايض على إنتاج كميات زائدة من الهرمونات الذكورية (الأندروجينات).

هذا الخلل يسبب الأعراض المعروفة للمتلازمة: عدم انتظام الدورة الشهرية، تساقط شعر الرأس، وظهور الشعر في أماكن غير مرغوب فيها مثل الذقن والبطن.

الأدلة العلمية: العلاقة بين مقاومة الإنسولين وتكيس المبايض موثقة جيداً. دراسة تحليلية شاملة (Meta-analysis) منشورة في Journal of Clinical Endocrinology & Metabolism عام 2017 أكدت أن مقاومة الإنسولين موجودة لدى نسبة كبيرة من النساء المصابات بالمتلازمة، بغض النظر عن وزنهن.

3. مرض السكري من النوع الثاني (Type 2 Diabetes)

إذا استمرت مقاومة الإنسولين دون علاج، فإنها تمهد الطريق مباشرة للإصابة بالسكري. في البداية، يكون الشخص في مرحلة “ما قبل السكري” (Prediabetes)، حيث تكون مستويات السكر في الدم أعلى من الطبيعي ولكن ليس بما يكفي لتشخيص السكري.

مع مرور الوقت، يصل البنكرياس إلى مرحلة الإنهاك، ويفقد قدرته على إنتاج كميات كافية من الإنسولين للتغلب على مقاومة الخلايا. عندها، يرتفع مستوى السكر في الدم بشكل لا يمكن السيطرة عليه، ويتم تشخيص الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني، بكل ما يحمله من مضاعفات خطيرة على العينين، الكلى، الأعصاب، والقلب.

4. الالتهابات وارتفاع الكوليسترول

يشير الدكتور ضياء إلى أن مقاومة الإنسولين تزيد من حالة الالتهاب المزمن منخفض الدرجة في الجسم. استجابة لهذا الالتهاب، يبدأ الكبد في إنتاج المزيد من الكوليسترول.

وهنا يصحح الدكتور مفهوماً شائعاً: “الكوليسترول يا جماعة مش مضر”. يوضح أن الكبد ينتج الكوليسترول بشكل طبيعي لأنه ضروري لبناء الخلايا وإنتاج الهرمونات. لكن المشكلة تكمن في زيادة إنتاج الكوليسترول الضار (LDL) والدهون الثلاثية (Triglycerides) نتيجة للالتهاب والنظام الغذائي السيئ، مما يؤدي إلى تراكمها في الأوعية الدموية.

الأدلة العلمية: مراجعة علمية (Review) نُشرت في مجلة Nature عام 2019 بعنوان “Inflammation, metabolism, and disease” تستعرض بالتفصيل كيف أن الخلل الأيضي (Metabolic dysfunction)، بما في ذلك مقاومة الإنسولين، يؤدي إلى التهاب مزمن يساهم في أمراض القلب والأوعية الدموية.

5. ارتفاع ضغط الدم (Hypertension)

العلاقة بين أمراض الأيض وضغط الدم وثيقة. يذكر الدكتور ضياء: “أول ما الكوليسترول والدهون الثلاثية ارتفعوا، يحصل مرض رقم خمسة، تلاقي ضغط الدم ارتفع”.

ارتفاع مستويات الإنسولين بشكل مزمن يمكن أن يساهم في ارتفاع ضغط الدم بعدة طرق، منها: زيادة احتباس الصوديوم في الكلى، وزيادة تصلب الشرايين وفقدانها لمرونتها. لهذا السبب، من الشائع جداً رؤية مريض يعاني من السكري والضغط والكوليسترول في آن واحد.

الأدلة العلمية: دراسة بشرية (Human study) واسعة النطاق نُشرت في مجلة Hypertension وجدت ارتباطاً قوياً ومستقلاً بين مستويات الإنسولين المرتفعة وخطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم على المدى الطويل.

6. الكبد الدهني (Fatty Liver Disease)

عندما تمتلئ خلايا الجسم بالجلوكوز وترفض استقبال المزيد، يبدأ الكبد في تحويل الفائض من السكر، وخاصة الفركتوز، إلى دهون. تتراكم هذه الدهون على الكبد، مما يؤدي إلى حالة تعرف بمرض الكبد الدهني غير الكحولي (NAFLD).

هذه الحالة كانت نادرة في الماضي، لكنها أصبحت اليوم وباءً عالمياً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسمنة ومتلازمة الأيض.

الأدلة العلمية: الدكتور روبرت لستغ (Dr. Robert Lustig)، أستاذ طب الأطفال والغدد الصماء، هو من أبرز الخبراء الذين سلطوا الضوء على دور الفركتوز في وباء الكبد الدهني. في دراساته ومحاضراته الشهيرة مثل “Sugar: The Bitter Truth“، يوضح أن الكبد يتعامل مع الفركتوز بنفس الطريقة التي يتعامل بها مع الكحول، وتحويله إلى دهون هو أحد نواتج هذه العملية الأيضية.

7. النقرس (Gout)

مع تراكم الدهون على الكبد وتفاقم مقاومة الإنسولين، تتأثر قدرة الكلى على التخلص من حمض اليوريك (Uric Acid). عندما يرتفع مستوى حمض اليوريك في الدم، فإنه يتبلور ويترسب في المفاصل، مسبباً نوبات ألم شديدة وحادة، وهي الحالة المعروفة بالنقرس.

يشير الدكتور ضياء إلى أن الألم غالباً ما يتركز في كعب الرجل والمفاصل الصغيرة.

الأدلة العلمية: دراسة تلوية (Meta-analysis) نُشرت في BMJ Open عام 2020 وجدت أن استهلاك المشروبات المحلاة بالسكر والفركتوز يرتبط بزيادة خطر الإصابة بالنقرس.

8. الخرف والزهايمر (Dementia & Alzheimer’s)

يصف الدكتور ضياء هذا المرض بأنه “آخر صاحب من الشلة، بس هو بيحب يتأخر عن ميعاده شوية”. العلاقة بين مقاومة الإنسولين وتدهور الدماغ أصبحت مجال بحث نشط، حتى أن بعض العلماء أطلقوا على مرض الزهايمر اسم “السكري من النوع الثالث”.

الآلية المقترحة هي أن مقاومة الإنسولين في الدماغ تعطل قدرة خلايا الدماغ على استخدام الجلوكوز كمصدر للطاقة، وتزيد من الالتهاب وتراكم لويحات الأميلويد (Amyloid plaques)، وهي السمة المميزة لمرض الزهايمر.

الأدلة العلمية: عند البحث عن أدلة، نجد مراجعة علمية (Review) منشورة في The Lancet Neurology عام 2022 تستكشف بعمق العلاقة بين مقاومة الإنسولين والزهايمر، وتدعم فرضية أن الخلل الأيضي يلعب دوراً حاسماً في تطور المرض.

الحل ليس في حبة دواء

ينتقد الدكتور ضياء الدين بشدة العقلية السائدة التي تبحث عن حلول سريعة في الأدوية، بينما تتجاهل السبب الجذري للمشكلة. يقول: “عندك ضغط، يا عم خد لك حباية الضغط وهتبقى زي الفل. طيب حضرتك فكرت تنزل وزنك؟ فكرت تبطل عك في الأكل؟”.

الحل الحقيقي، كما يؤكد، يكمن في تغيير نمط الحياة بشكل جذري:

  1. تغيير النظام الغذائي: التوقف عن استهلاك السكريات المضافة، الكربوهيدرات المكررة، والدهون غير الصحية. والتركيز على الأطعمة الكاملة والطبيعية.
  2. ممارسة الرياضة: لا يتطلب الأمر الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية. مجرد المشي اليومي يمكن أن يحدث فرقاً هائلاً في تحسين حساسية الإنسولين.
  3. النوم الجيد: السهر وقلة النوم يرفعان من هرمونات التوتر ويزيدان من مقاومة الإنسولين.
  4. الإقلاع عن التدخين: التدخين يزيد من الالتهابات والإجهاد التأكسدي في الجسم.

هذا النهج الشامل يجد أصداءً في أنظمة الطب التقليدي مثل الأيورفيدا (Ayurveda) الهندي، الذي يربط بين تراكم “آما” (Ama) أو السموم الناتجة عن الهضم السيئ والنظام الغذائي الخاطئ وبين ظهور الأمراض المزمنة. كما أن الطب الصيني التقليدي (TCM) يشدد على أهمية توازن الطاقات في الجسم من خلال الغذاء الصحيح لتجنب “الرطوبة” و”الركود” اللذين يعتبران أساساً لكثير من الأمراض الأيضية.

خاتمة: دعوة عاجلة للعمل

يختتم الدكتور ضياء الدين حديثه بدعوة مؤثرة: “الحق نفسك والحق أولادك، لأن الحوار ده مش بيحصل في يوم وليلة، دي بتبقى تراكمات على مدار السنين”.

إن رسالته واضحة: متلازمة الأيض ليست حكماً نهائياً، بل هي نتيجة تراكمية لخيارات يومية. وبينما قد تبدو الصورة قاتمة، فإنها تحمل في طياتها أملاً كبيراً. فبما أن هذه الأمراض مترابطة بسبب جذري واحد، فإن معالجة هذا السبب يمكن أن توقف السلسلة بأكملها، بل وتعكس الكثير من الأضرار. إنها دعوة لاستعادة السيطرة على صحتنا من خلال الوعي والمعرفة والعمل.


تنويه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائماً استشارة الطبيب المختص قبل اتخاذ أي قرارات تتعلق بصحتك.