ماذا لو كان أحد المنتجات الشائعة على مائدة إفطارنا، والذي يُسوق له كبديل صحي، هو في الواقع أحد الأسباب الرئيسية للأمراض المزمنة التي تنهش أجسادنا بهدوء؟ قد تبدو هذه الفكرة صادمة، لكنها الحقيقة التي كشف عنها خبراء التغذية حول العالم، محذرين من مخاطر ما يسمى بـ “الزبده النباتية”.

في أحد فيديوهاته التوعوية، تناول الدكتور محمد الفايد هذا الموضوع بعمق، موضحًا أن العديد من الأمراض الحديثة ليست قضاءً وقدرًا بقدر ما هي نتيجة مباشرة لأخطاء بشرية، سواء كانت أخطاء إعلامية مضللة، أو أخطاء علمية كارثية، أو أخطاء صناعية هدفها الربح على حساب صحة المستهلك. ومن بين أخطر هذه الأخطاء، يبرز انتشار الزيوت المهدرجة التي تباع تحت مسمى “الزبدة النباتية”.

قصة ثلاثة أنواع من الزبدة: الأصلي، والصناعي، والمُضلِّل

لفهم حجم المشكلة، يجب أن نفرق بين ثلاثة منتجات مختلفة تمامًا، غالبًا ما يخلط بينها المستهلك:

1. المعيار الذهبي: الزبدة البلدية التقليدية

الزبدة الحقيقية، كما عرفها أجدادنا، هي منتج طبيعي يُستخرج من الحليب الطازج الكامل الدسم. تبدأ العملية بترك الحليب ليتخمر طبيعيًا (يروب)، حيث تقوم البكتيريا النافعة الموجودة فيه بتحويله إلى لبن رائب. بعد ذلك، يتم خض هذا اللبن في أوعية تقليدية (الشكوى) لفصل المادة الدهنية الصلبة (الزبدة) عن السائل (اللبن).

هذه الزبدة ليست مجرد دهون، بل هي كنز غذائي. لأنها تأتي من حليب خام لم يتعرض للحرارة (البسترة)، فهي تحتفظ بجميع الإنزيمات الحيوية مثل “ليبوبروتين ليباز” (LPL) و”الفوسفاتاز القلوي”، وهي إنزيمات تلعب دورًا حاسمًا في هضم الدهون وامتصاصها. كما أنها غنية بالأحماض الدهنية قصيرة السلسلة، وعلى رأسها حمض البيوتريك (Butyric acid).

عند البحث عن الأدلة العلمية، وجدت أن حمض البيوتريك يعتبر مصدر الطاقة الرئيسي لخلايا القولون، ويساهم في الحفاظ على صحة بطانة الأمعاء وتقليل الالتهابات. تشير دراسات مراجعة (Review studies) إلى دوره المحتمل في تخفيف أعراض أمراض مثل متلازمة القولون العصبي (IBS) ومرض كرون. هذه الفوائد تجعل الزبدة البلدية غذاءً حيويًا، خاصة للأطفال في مرحلة النمو.

2. الحل الوسط: الزبدة الصناعية (الحيوانية)

مع تطور الصناعة، ظهر نوع آخر من الزبدة، يُعرف في المغرب بـ “الزبدة الرومية”. هذه الزبدة مصنوعة أيضًا من حليب البقر، لكنها تُستخرج من القشدة (الكريمة) التي يتم فصلها عن الحليب المبستر. يتم بعد ذلك تخمير هذه القشطة وخضها صناعيًا.

على الرغم من أنها منتج حيواني أصلي، إلا أن عملية البسترة (التسخين لقتل الجراثيم) تقضي على الإنزيمات الحساسة للحرارة الموجودة في الحليب الخام، مما يقلل من قيمتها الغذائية مقارنة بالزبدة البلدية. ومع ذلك، تظل خيارًا طبيعيًا ومقبولًا لأنها لم تتعرض لعمليات كيميائية تغير من طبيعة دهونها.

3. الخدعة الكبرى: “الزبدة النباتية” أو المارغرين

هنا تكمن المشكلة الحقيقية. ما يُباع تحت اسم “زبدة نباتية” ليس زبدة على الإطلاق. إنها منتج صناعي بالكامل مصنوع من زيوت نباتية سائلة (مثل زيت النخيل، الصويا، أو الذرة) تم تحويلها إلى مادة صلبة تشبه الزبدة. هذه العملية تسمى الهدرجة (Hydrogenation).

تتم الهدرجة عن طريق تسخين الزيوت النباتية إلى درجات حرارة عالية جدًا (قد تصل إلى 500 درجة مئوية) في وجود محفزات معدنية (غالبًا معادن ثقيلة مثل النيكل)، ثم يتم ضخ غاز الهيدروجين فيها. هذه العملية العنيفة تغير التركيب الكيميائي للأحماض الدهنية.

العدو الخفي: الدهون المتحولة (Trans Fats)

الأحماض الدهنية غير المشبعة في الطبيعة (مثل الموجودة في زيت الزيتون) لها شكل كيميائي يسمى “سيس” (Cis)، وهو الشكل الذي يستطيع الجسم التعرف عليه واستخدامه. عملية الهدرجة الصناعية تقوم بتحويل هذا الشكل الطبيعي إلى شكل غريب ومشوه يسمى “ترانس” (Trans).

هذه الدهون المتحولة “ترانس” هي مادة لا وجود لها في الطبيعة بهذا الشكل، والجسم لا يعرف كيفية التعامل معها. إنها بمثابة “بلاستيك” غذائي يتراكم في الجسم ويسبب أضرارًا جسيمة.

عند البحث عن الأدلة العلمية حول هذا الادعاء، كانت النتائج مرعبة. لقد حذرت منظمة الصحة العالمية (WHO) مرارًا وتكرارًا من مخاطر الدهون المتحولة الصناعية، وأطلقت حملة عالمية للقضاء عليها تمامًا من الإمدادات الغذائية. توصي المنظمة بألا يتجاوز استهلاك الدهون المتحولة 1% من إجمالي السعرات الحرارية اليومية. وتشير تقديرات المنظمة إلى أن تناول هذه الدهون يسبب حوالي نصف مليون حالة وفاة بأمراض القلب سنويًا.

وقد أكدت مراجعة منهجية وتحليل تلوي (systematic review and meta-analysis) نُشر في المجلة الطبية البريطانية (BMJ) أن تناول الدهون المتحولة الصناعية يرتبط بزيادة خطر الوفاة بجميع الأسباب بنسبة 34%، وزيادة خطر الوفاة بأمراض القلب التاجية بنسبة 28%.

ويتفق مع هذا الرأي خبراء بارزون مثل الدكتور والتر ويليت (Dr. Walter Willett)، أستاذ التغذية وعلم الأوبئة في جامعة هارفارد، الذي كان من أوائل الباحثين الذين كشفوا عن مخاطر هذه الدهون في التسعينيات. يصف الدكتور ويليت الدهون المتحولة بأنها “سمٌّ أيضي” (metabolic poison)، وقد لعبت أبحاثه دورًا رئيسيًا في قرار إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) بحظرها في الولايات المتحدة.

الخطر لا يقتصر على أمراض القلب، بل يمتد ليشمل:

  • الأمراض المناعية الذاتية: يذكر الدكتور الفايد أن الدهون المتحولة هي المتهم الأول في أمراض المناعة الذاتية، مثل التصلب اللويحي (Multiple Sclerosis)، وأمراض الغدة الدرقية (مثل هاشيموتو).
  • السرطان: تشير بعض الدراسات إلى وجود صلة بين استهلاك الدهون المتحولة وزيادة خطر الإصابة ببعض أنواع السرطان.
  • الالتهابات المزمنة: تزيد هذه الدهون من مستويات الالتهاب في الجسم، وهو أصل العديد من الأمراض المزمنة.

مقارنات مع أنظمة الطب التقليدي

من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن أنظمة الطب القديمة قد أدركت قيمة الدهون الطبيعية منذ آلاف السنين.

  • في الأيورفيدا (الطب الهندي التقليدي): يُعتبر السمن (Ghee)، وهو زبدة مصفاة، إكسيرًا للصحة. يُعتقد أنه يغذي العقل والجسم، ويحسن الهضم، ويعزز المناعة، ويستخدم كوسيلة لنقل الخصائص العلاجية للأعشاب إلى أعماق الأنسجة. عند البحث، وجدت أن دراسات عديدة تدعم استخدام السمن لخصائصه المضادة للالتهابات وقدرته على تحسين صحة الجهاز الهضمي.
  • في الطب الصيني التقليدي: تُستخدم الدهون الحيوانية الطبيعية باعتدال لتغذية الدم والـ “يين” (Yin)، مما يساعد على ترطيب الجسم وتهدئة العقل. الفكرة دائمًا هي استخدام المواد في حالتها الطبيعية التي خلقها الله.

هذا التوافق بين الحكمة القديمة والعلم الحديث يؤكد أن العبث بتركيبة الغذاء الطبيعية له عواقب وخيمة.

“الوعي الجائر”: مفارقة العصر الحديث

ينتقل الدكتور الفايد إلى نقطة فلسفية عميقة، واصفًا الحالة الراهنة بـ “الوعي الجائر”. والمقصود هو أن الإنسان المعاصر قد يكون متعلمًا وحاصلًا على شهادات عليا، لكنه يجهل أبسط قواعد الحفاظ على صحته. لديه وعي سياسي واقتصادي، لكنه لا يعرف ماذا يأكل، فيصبح وعيه هذا “جائرًا” عليه، أي أنه يظلمه ويؤذيه بدلًا من أن ينفعه.

هذه الفكرة تسلط الضوء على حق المستهلك في الحصول على معلومات صحيحة وشفافة. إن تسمية المارغرين بـ “الزبدة النباتية” هو تضليل متعمد، وكثير من الناس، وحتى بعض الأطباء غير المتخصصين في التغذية، يقعون في هذا الفخ، وينصحون بها كبديل “خفيف” وصحي للزبدة الحيوانية، وهو ما يزيد الطين بلة.

توصيات عملية من أجل صحتك

المشكلة الاقتصادية تلعب دورًا كبيرًا، حيث أن سعر الزبدة الحيوانية ارتفع بشكل كبير، مما دفع الكثيرين إلى المارغرين الرخيص. لكن هذا التوفير المادي يأتي بتكلفة باهظة على الصحة.

  • الطبخ بالمارغرين: يحذر الدكتور الفايد من أن إعادة تسخين هذه الزيوت المهدرجة (كما يحدث عند إعداد الفطائر والمعجنات مثل “المسمن”) يجعلها أكثر سمية، وقد ينتج عنها رائحة تشبه البترول، وهي علامة على تفاعلات كيميائية خطيرة.
  • الفئات الأكثر عرضة للخطر: يجب على الأشخاص الذين يعانون من أمراض القلب والشرايين، والسرطانات، والأمراض المناعية الذاتية، ومشاكل الغدة الدرقية، تجنب المارغرين والزيوت المهدرجة بشكل قاطع.

الحل، كما يطرحه الدكتور الفايد، يكمن في العودة إلى “كتاب الطبيعة”. يجب أن نتعلم من جديد كيف نميز بين الغذاء الحقيقي والغذاء المصنّع، وأن نختار ما خلقه الله في صورته الأصلية. إن النضال الحقيقي اليوم يجب ألا يكون فقط من أجل بناء المستشفيات، بل من أجل ألا نحتاج إليها في المقام الأول، وذلك عبر تجفيف منابع المرض التي تبدأ من مطابخنا.


تنويه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائمًا استشارة الطبيب أو أخصائي التغذية المؤهل قبل إجراء أي تغييرات على نظامك الغذائي.