قد تكون تعاني من مشكلة صحية شائعة دون أن تدرك ذلك. حصوات المرارة، تلك الترسبات الصغيرة التي تتكون بصمت، قد تتواجد لدى ما يصل إلى 75% من المصابين بها دون أي أعراض على الإطلاق. هذه الحقيقة تجعلها “قنبلة موقوتة” في نظر البعض، بينما يتعايش معها آخرون بسلام طوال حياتهم. فما هي الأسباب الحقيقية وراء تكونها؟ وهل الحلول الشعبية المتداولة فعالة حقًا أم أنها مجرد خرافات لا أساس لها من الصحة؟
في حوار تلفزيوني حديث، قدم الدكتور نايف العنزي، استشاري جراحة السمنة والمناظير، إيضاحات شاملة حول هذا الموضوع، مفندًا العديد من المفاهيم الخاطئة الشائعة ومقدمًا رؤية طبية واضحة حول كيفية التعامل مع هذه الحالة المنتشرة. يهدف هذا المقال إلى تلخيص وتوسيع النقاط التي أثارها، مع إضافة أبحاث علمية وآراء خبراء آخرين لتقديم صورة متكاملة.
من هم الأكثر عرضة للإصابة؟ عوامل الخطر التي يجب أن تعرفها
أوضح الدكتور العنزي أن حصوات المرارة لا تتكون عشوائيًا، بل هناك عوامل محددة تزيد من احتمالية ظهورها بشكل كبير. هذه العوامل تتنوع بين الوراثة ونمط الحياة والتغيرات الهرمونية.
1. العامل الوراثي والكوليسترول: يلعب الاستعداد الجيني دورًا محوريًا. إذا كان أحد أفراد عائلتك يعاني من حصوات المرارة، فإن خطر إصابتك يرتفع. السبب الرئيسي، كما ذكر الدكتور، هو زيادة مستوى الكوليسترول في الجسم. عندما يرتفع الكوليسترول، تصبح الأملاح المرارية (Bile Salts) - وهي المادة التي تفرزها الكبد لإذابة الدهون - غير قادرة على التعامل مع الكمية الفائضة. نتيجة لذلك، يترسب الكوليسترول الزائد ببطء على شكل بلورات تتجمع مع مرور الوقت لتشكل حصوات. وهذا ما تؤكده مراجعة علمية نشرت في مجلة Nature Reviews Disease Primers، حيث أشارت إلى أن فرط تشبع العصارة الصفراوية بالكوليسترول هو الخطوة الأولى في تكوين 90% من حصوات المرارة.
2. الجنس والهرمونات: النساء هن “السواد الأعظم” من المصابين، بحسب تعبير الدكتور العنزي، حيث تشير الدراسات إلى أن نسبة الإصابة لديهن تتراوح بين 65% إلى 75%. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى تأثير هرمون الإستروجين.
- الحمل والولادات المتكررة: يزيد هرمون الإستروجين بشكل طبيعي أثناء الحمل، مما يرفع من خطر تكون الحصوات.
- حبوب منع الحمل: تحتوي هذه الأدوية على الإستروجين، الذي يزيد من تركيز الكوليسترول في العصارة الصفراوية ويبطئ حركة المرارة، مما يهيئ بيئة مثالية لتكون الحصوات. دراسة من نوع مراجعة منهجية (Systematic Review) عام 2017 أكدت أن استخدام موانع الحمل الفموية مرتبط بزيادة طفيفة ولكنها مهمة في خطر الإصابة بأمراض المرارة.
3. السمنة والوزن: السمنة وزيادة الوزن هما من أهم عوامل الخطر. فالجسم البدين يميل إلى إنتاج كميات أكبر من الكوليسترول. والمفارقة التي أشار إليها الدكتور العنزي هي أن فقدان الوزن السريع، خاصة بعد عمليات جراحية مثل تكميم المعدة، يزيد أيضًا من خطر تكون الحصوات لدى حوالي 20% من المرضى. السبب هو أن الجسم أثناء حرق الدهون بسرعة يطلق كميات كبيرة من الكوليسترول التي يتم معالجتها عبر الكبد، مما يزيد العبء على المرارة.
4. النظام الغذائي: الوجبات السريعة والأطعمة الغنية بالدهون المشبعة هي محفز مباشر. أوضح الدكتور أن الدهون تحفز المرارة على الانقباض لإطلاق العصارة الصفراوية اللازمة لهضمها. عندما تكون الحصوات موجودة، تسبب هذه الانقباضات ألمًا حادًا. لذلك، حتى الأشخاص النحيفون الذين يتبعون نظامًا غذائيًا عالي الدهون معرضون للخطر.
5. أمراض أخرى: بعض الحالات الصحية تزيد من احتمالية الإصابة، مثل أمراض الكبد، وبعض أمراض الدم (التي تسبب تكون حصوات صبغية بدلاً من حصوات الكوليسترول)، ومرض السكري من النوع الثاني.
الحصوات الصامتة: عندما لا تشعر بأي شيء
من أكثر النقاط إثارة للدهشة التي ذكرها الدكتور العنزي هي أن حوالي 75% من الأشخاص الذين لديهم حصوات في المرارة لا يعانون من أي أعراض. تُعرف هذه بـ “الحصوات الصامتة” (Asymptomatic Gallstones)، وغالبًا ما يتم اكتشافها بالصدفة أثناء إجراء فحوصات طبية لسبب آخر تمامًا، مثل فحص الموجات فوق الصوتية للبطن.
قد يعاني الشخص من آلام غامضة في الجزء العلوي من البطن أو “فم المعدة”، ويعتقد أنها ناتجة عن مشكلة في المعدة، بينما يكون السبب الحقيقي هو المرارة. تبدأ الأعراض الفعلية بالظهور عندما تتحرك إحدى الحصوات من مكانها داخل كيس المرارة (Gallbladder) وتتسبب في انسداد إحدى القنوات الصفراوية (Bile Ducts). هنا تبدأ المعاناة الحقيقية التي تتجلى في:
- المغص المراري (Biliary Colic): ألم حاد ومفاجئ في الجزء العلوي الأيمن من البطن، قد يمتد إلى الكتف الأيمن أو الظهر.
- الغثيان والقيء.
- الحمى وارتفاع درجة الحرارة في حال حدوث التهاب.
متى تكون الجراحة ضرورية؟ قرار ليس عشوائيًا
يطرح السؤال الأهم نفسه: إذا تم اكتشاف حصوات صامتة بالصدفة، هل يجب استئصال المرارة فورًا؟ إجابة الدكتور العنزي كانت قاطعة: لا.
مجرد وجود الحصوات دون أعراض لا يستدعي بالضرورة تدخلًا جراحيًا. في هذه الحالة، يكون التركيز على الوقاية لمنع تحولها إلى حصوات نشطة. وتشمل استراتيجيات الوقاية:
- تجنب الأطعمة الدهنية.
- إنقاص الوزن بشكل تدريجي وبطيء.
- الحفاظ على نظام غذائي متوازن.
أما إذا بدأت الأعراض بالظهور، فإن القرار يعتمد على تكرارها وشدتها.
- نوبة مغص مراري واحدة: قد لا تكون كافية لاتخاذ قرار الجراحة. يمكن التعامل معها بالمسكنات والحمية الغذائية.
- تكرار النوبات: إذا تكررت نوبات المغص المراري 3 إلى 4 مرات خلال عام واحد أو أقل، وأصبحت تؤثر على جودة حياة المريض وتستدعي زيارات متكررة للطوارئ، هنا يصبح التدخل الجراحي هو الحل الأمثل.
وهذا يتوافق مع إرشادات الجمعية العالمية لجراحة الطوارئ (WSES)، التي توصي بالجراحة للمرضى الذين يعانون من حصوات مصحوبة بأعراض، بينما تقترح المراقبة والانتظار للحالات الصامتة، إلا في حالات خاصة جدًا (مثل المرضى الذين سيخضعون لزراعة أعضاء).
تفنيد الخرافات الشائعة: ما بين العلم والطب البديل
تنتشر حول حصوات المرارة العديد من الخرافات والعلاجات الشعبية. وقد كان الدكتور العنزي حاسمًا في تفنيدها بناءً على الأدلة الطبية.
خرافة 1: الأعشاب والطب البديل يمكن أن تذيب الحصوات أكد الدكتور بشكل قاطع: “لا يوجد أي دور علمي أو دراسات علمية تثبت فعالية الأعشاب في علاج حصوات المرارة بأي طريقة من الطرق”. العلاج الوحيد المثبت علميًا للحصوات المصحوبة بأعراض هو الإزالة الجراحية للمرارة (Cholecystectomy).
عند البحث عن أدلة علمية، نجد أن كلامه دقيق. لا توجد تجارب سريرية قوية تدعم استخدام خلطات مثل زيت الزيتون والليمون أو مغلي البقدونس لإذابة الحصوات. في الواقع، قد يكون تناول كميات كبيرة من الدهون (مثل زيت الزيتون) في محاولة “لتنظيف” المرارة خطيرًا، لأنه قد يحفز انقباضات عنيفة تدفع الحصوات إلى القنوات الصفراوية وتسبب انسدادًا حادًا.
من المثير للاهتمام أن بعض أنظمة الطب التقليدي، مثل الطب الصيني التقليدي (TCM) والأيورفيدا (Ayurveda)، تستخدم أعشابًا لدعم صحة الكبد والمرارة (مثل الكركم وعشبة شوك الحليب)، لكن الهدف غالبًا هو تحسين تدفق العصارة الصفراوية وتقليل الالتهاب، وليس إذابة الحصوات الكبيرة الموجودة بالفعل.
خرافة 2: حصوات المرارة مثل حصوات الكلى هذا خطأ شائع. أوضح الدكتور العنزي الفرق الجوهري:
- حصوات المرارة: 90% منها تتكون من الكوليسترول. هي ناعمة ولا يمكن تفتيتها بالموجات الصادمة (Lithotripsy). لذلك، يتم استئصال العضو بأكمله.
- حصوات الكلى: تتكون غالبًا من الكالسيوم. هي صلبة ويمكن تفتيتها بالموجات الصادمة.
خرافة 3: استئصال المرارة يسبب زيادة الوزن نفى الدكتور العنزي هذه المعلومة تمامًا، وقدم تفسيرًا منطقيًا وسلوكيًا. قبل الجراحة، كان المريض يتجنب الأطعمة الدهنية خوفًا من الألم. بعد إزالة المرارة، يختفي هذا الخوف، فيعود المريض إلى عاداته الغذائية السابقة ويأكل “براحته”، مما يؤدي إلى زيادة الوزن. المرارة بحد ذاتها “بريئة” من هذه التهمة. مراجعة علمية نشرت في World Journal of Gastroenterology فحصت التغيرات في الوزن بعد استئصال المرارة ووجدت أن الزيادة الطفيفة في الوزن التي يلاحظها بعض المرضى ترتبط على الأرجح بالعودة إلى نظام غذائي أقل تقييدًا بعد الجراحة، وليس بسبب أي تغيير استقلابي ناتج عن غياب المرارة.
يتفق مع هذا الرأي خبراء عالميون من مؤسسات مثل مايو كلينك (Mayo Clinic)، الذين يؤكدون أن الجسم يتكيف مع غياب المرارة، حيث تتدفق العصارة الصفراوية مباشرة من الكبد إلى الأمعاء الدقيقة، وأن زيادة الوزن بعد الجراحة غالبًا ما تكون نتيجة لتغيير نمط الحياة.
الخلاصة: العلم هو دليلك الأول
يقدم الدكتور نايف العنزي رؤية واضحة ومتوازنة: حصوات المرارة حالة شائعة جدًا، وغالبًا ما تكون غير ضارة. المفتاح هو فهم عوامل الخطر واتباع نمط حياة صحي للوقاية. أما عند ظهور الأعراض، فإن الحل الجراحي هو الأكثر أمانًا وفعالية، ولا ينبغي الاعتماد على علاجات بديلة لا تستند إلى دليل علمي. إن فهم طبيعة هذه الحالة وتجنب الخرافات هو الخطوة الأولى نحو التعامل معها بوعي ومسؤولية.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تعليمية فقط ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائمًا استشارة الطبيب المختص لتشخيص حالتك وتحديد العلاج المناسب.