هل يمكن أن يكون التخلص من حصوات المرارة المؤلمة بهذه البساطة، مجرد قضاء عطلة نهاية أسبوع في المنزل مع وصفة تعتمد على زيت الزيتون؟ تبدو فكرة “تنظيف المرارة” أو “غسل المرارة” جذابة بشكل لا يصدق، خاصة لأولئك الذين يسعون لتجنب الجراحة. لكن وراء هذا الوعد بالشفاء السهل تكمن حقيقة علمية صادمة قد تغير نظرتك تمامًا لهذه الممارسة. فما تراه يخرج من جسدك قد لا يكون سوى نتيجة خدعة كيميائية بسيطة تحدث داخل جهازك الهضمي.

في فيديو تثقيفي على قناته، يتناول الدكتور مايكل كلابر، وهو طبيب أمريكي معروف بدعمه للتغذية النباتية والطب القائم على الأدلة، هذه القضية بالتحديد. يوضح الدكتور كلابر أن عالم التغذية والصحة مليء بالمعلومات المضللة، وأن “تنظيف المرارة” هو أحد أبرز الأمثلة على ذلك، حيث يمزج بين التفكير السحري وسوء فهم أساسيات الكيمياء والتشريح البشري. هذا المقال يغوص في أعماق هذا الموضوع، ويفكك الادعاءات، ويقدم الأدلة العلمية، ويستعرض آراء خبراء آخرين لفهم ما يحدث حقًا داخل الجسم عند اتباع هذه الوصفة.

ما هي حصوات المرارة الحقيقية؟

قبل الخوض في تفاصيل “التنظيف”، من الضروري فهم طبيعة حصوات المرارة الحقيقية. كما يؤكد الدكتور كلابر، هذه ليست مجرد كتل ناعمة، بل هي “أحجار بالمعنى الحرفي للكلمة”. إنها صلبة ومتكلسة، وإذا أسقطتها على الأرض، فإنها سترتد. يتطلب سحقها استخدام أدوات قوية مثل الكماشة.

من منظور علمي، تتكون حصوات المرارة (Gallstones) بشكل أساسي من نوعين:

  1. حصوات الكوليسترول (Cholesterol Stones): وهي الأكثر شيوعًا (حوالي 80% من الحالات)، وتتكون عندما يحتوي سائل المرارة (العصارة الصفراوية) على نسبة عالية جدًا من الكوليسترول. يتصلب هذا الكوليسترول الزائد ليشكل بلورات ثم حصوات.
  2. الحصوات الصبغية (Pigment Stones): وهي أصغر حجمًا وأغمق لونًا، وتتكون من البيليروبين (Bilirubin)، وهي مادة تنتج عن تكسر خلايا الدم الحمراء.

هذه الحصوات تتشكل داخل المرارة، وهي عضو صغير يقع تحت الكبد، وتكمن وظيفتها في تخزين وتركيز العصارة الصفراوية التي ينتجها الكبد للمساعدة في هضم الدهون. صلابة هذه الحصوات هي حقيقة تشريحية أساسية غالبًا ما يتم تجاهلها من قبل مروجي علاجات “التنظيف”.

وهم “تنظيف المرارة”: الوصفة والادعاء

يقدم مروجو “تنظيف المرارة” هذه الطريقة كبديل غير جراحي للأشخاص الذين يعانون من حصوات المرارة. تقوم الفكرة على فرضية بسيطة: استهلاك كمية كبيرة من الدهون سيجبر المرارة على الانقباض بقوة شديدة، مما يؤدي إلى “طرد” الحصوات الموجودة بداخلها إلى الأمعاء ومن ثم خارج الجسم.

الوصفة النموذجية، مع بعض الاختلافات الطفيفة، تتضمن عادةً المكونات التالية:

  • كمية كبيرة من زيت الزيتون: عادة كوب أو كوبان.
  • عصير حمضي: مثل عصير الليمون، الجريب فروت، أو خل التفاح.
  • ملح إبسوم (كبريتات المغنيسيوم): والذي يعمل كمليّن.

يُطلب من الشخص اتباع نظام غذائي معين، ثم شرب هذا الخليط. في صباح اليوم التالي، يلاحظ الشخص ظهور كتل خضراء أو بنية اللون، طرية الملمس، تطفو في المرحاض. هنا، يعتقد الشخص أن “المعجزة” قد حدثت، وأن هذه هي حصوات المرارة التي تم طردها بنجاح، متجنبًا بذلك عملية جراحية.

الحقيقة العلمية: خدعة التصبّن البسيطة

ما يصفه الدكتور كلابر بأنه “خدعة صالونات فسيولوجية” هو في الواقع عملية كيميائية بسيطة ومعروفة تسمى التصبّن (Saponification). إنها نفس العملية المستخدمة في صناعة الصابون منذ قرون. المعادلة بسيطة:

الدهون (Fat) + مادة قلوية (Alkali) = صابون (Soap)

لنفهم كيف يحدث هذا داخل أجسامنا، دعونا نتتبع رحلة مكونات “التنظيف” عبر الجهاز الهضمي:

  1. زيت الزيتون (الدهون): عند شرب كوبين من زيت الزيتون، تصل هذه الكمية الهائلة من الدهون إلى المعدة.
  2. العصير الحمضي: يوضح الدكتور كلابر أن وظيفة الحمض (مثل حمض الستريك في الليمون) هي خداع العضلة العاصرة البوابية (Pyloric Sphincter)، وهي الصمام الموجود في أسفل المعدة، لفتح والسماح للزيت بالمرور إلى الأمعاء الدقيقة.
  3. المادة القلوية (من البنكرياس): بمجرد وصول محتويات المعدة الحمضية إلى الجزء الأول من الأمعاء الدقيقة (الاثني عشر)، يتدخل البنكرياس (Pancreas). تتمثل إحدى وظائفه الرئيسية في إفراز عصارة قلوية غنية بالبيكربونات (Bicarbonate) لمعادلة حمض المعدة وحماية بطانة الأمعاء. هذه العصارة البنكرياسية شديدة القلوية، حيث يصل الرقم الهيدروجيني (pH) لها إلى حوالي 9.

هنا تحدث الخدعة: تلتقي الكمية الكبيرة من زيت الزيتون (الدهون) مع العصارة البنكرياسية (المادة القلوية) في الأمعاء. نتيجة هذا التفاعل الكيميائي هي تكوّن كتل من الصابون. ما يراه الناس في المرحاض في اليوم التالي ليس حصوات مرارة صلبة، بل هو صابون زيت الزيتون الذي صنعه الجسم بنفسه، والذي يتلون بالأخضر أو البني بسبب أصباغ العصارة الصفراوية.

هذا الادعاء ليس مجرد رأي، بل تم إثباته علميًا. في دراسة شهيرة نُشرت في مجلة The Lancet عام 2005 بعنوان “هل يمكن أن تكون هذه حصوات مرارة؟”، قام باحثون بتحليل “الحصوات” التي أخرجتها امرأة بعد خضوعها لعملية تنظيف المرارة. وجد التحليل الكيميائي أنها لا تحتوي على أي من مكونات حصوات المرارة الحقيقية مثل الكوليسترول أو البيليروبين. بدلاً من ذلك، كانت تتكون من أحماض دهنية خضعت لعملية التصبّن. وخلص الباحثون إلى أن هذه “الحصوات الزائفة” هي نتيجة مباشرة لتفاعل مكونات الوصفة داخل الأمعاء.

تشريح المستحيل: لماذا لا يمكن للحصوات الكبيرة أن تمر؟

جانب آخر من الوهم يتعلق بالتشريح البشري. يروج البعض لصور “حصوات” كبيرة، يصل قطر بعضها إلى 2-3 سنتيمترات، مدعين أنها خرجت من مرارتهم. هنا يطرح الدكتور كلابر سؤالًا منطقيًا: كيف يمكن لحجر بهذا الحجم أن يمر عبر القنوات الصفراوية الضيقة دون التسبب في ألم مبرح؟

يبلغ قطر القناة المرارية (Cystic Duct) والقناة الصفراوية المشتركة (Common Bile Duct) بضعة ملليمترات فقط (عادة بين 3-6 ملم). عندما تتحرك حصاة حقيقية، حتى لو كانت صغيرة، وتسد إحدى هذه القنوات، فإنها تسبب حالة طبية طارئة ومؤلمة للغاية تُعرف باسم المغص الصفراوي (Biliary Colic)، والتي تضع المريض على ركبتيه من شدة الألم وتتطلب تدخلًا طبيًا فوريًا. فكرة أن حصاة بحجم كرة الغولف يمكن أن تمر عبر هذه القنوات الضيقة أثناء نوم الشخص دون أن يشعر بأي شيء هي فكرة تتحدى قوانين الفيزياء والتشريح، ويصفها الدكتور كلابر بأنها “تفكير سحري”.

ليست مجرد خرافة، بل ممارسة خطيرة

قد يعتقد البعض أن الأمر غير ضار في أسوأ الأحوال، مجرد إهدار للمال والوقت وتحمل بعض الانزعاج الهضمي. لكن الدكتور كلابر والعديد من الخبراء الآخرين يحذرون من أن هذه الممارسة يمكن أن تكون خطيرة، خاصة للأشخاص الذين لديهم بالفعل حصوات في المرارة.

عندما يستهلك شخص لديه مرارة عاملة ومليئة بالحصوات كمية هائلة من الدهون مثل كوبين من زيت الزيتون، فإن هذا يحفز المرارة على الانقباض بقوة شديدة في محاولة لإفراز العصارة الصفراوية لهضم هذه الدهون. هذا الانقباض العنيف يمكن أن يؤدي إلى:

  • تحريك حصاة حقيقية ودفعها إلى القناة المرارية، مما يسبب انسدادًا مؤلمًا وحادًا.
  • التهاب المرارة الحاد (Acute Cholecystitis): وهي حالة طبية طارئة تتطلب دخول المستشفى وقد تستدعي إجراء عملية جراحية عاجلة لإزالة المرارة، والتي تكون أكثر خطورة من الجراحة المخطط لها.

هناك تقارير حالة (Case Reports) منشورة في المجلات الطبية توثق هذه المخاطر. على سبيل المثال، يصف الأطباء حالات لمرضى أصيبوا بالتهاب البنكرياس الحاد أو تدهورت حالتهم بشكل خطير بعد محاولة “تنظيف المرارة”.

آراء خبراء آخرين ومؤسسات طبية

موقف الدكتور كلابر ليس فريدًا، بل هو الإجماع السائد في المجتمع الطبي. مؤسسات طبية مرموقة مثل مايو كلينك (Mayo Clinic) وكليفلاند كلينك (Cleveland Clinic) تحذر صراحة من هذه الممارسة. تشير مايو كلينك إلى أن “تنظيف المرارة” إجراء محفوف بالمخاطر ويمكن أن يسبب مضاعفات، وأن “الحصوات” التي يتم إخراجها هي في الواقع نتيجة للمكونات المستخدمة في الوصفة.

يتفق العديد من الأطباء وخبراء التغذية على أن هذه الطريقة تفتقر إلى أي أساس علمي وهي مثال كلاسيكي على العلوم الزائفة التي تستغل رغبة الناس في إيجاد حلول سهلة لمشاكل صحية معقدة.

نظرة على الطب التقليدي

قد يتساءل البعض عما إذا كانت هذه الممارسات متجذرة في أنظمة الطب التقليدي القديمة مثل الأيورفيدا (Ayurveda) الهندي أو الطب الصيني التقليدي (TCM). في حين أن هذه الأنظمة تركز بشدة على صحة الكبد والجهاز الهضمي، إلا أن أساليبها تختلف اختلافًا جوهريًا عن مفهوم “التنظيف” الميكانيكي الحديث.

  • في الطب الصيني التقليدي، يتم التعامل مع مشاكل المرارة من خلال مفاهيم مثل “تهدئة طاقة الكبد” أو “إزالة الرطوبة والحرارة”. يتم ذلك عادةً من خلال الوخز بالإبر، وتغيير النظام الغذائي، واستخدام تركيبات عشبية معقدة تهدف إلى استعادة التوازن في الجسم، وليس طرد الحصوات بالقوة.
  • في الأيورفيدا، قد تتضمن العلاجات بروتوكولات تطهير مثل “بانشاكارما” (Panchakarma)، ولكنها عمليات معقدة تتم تحت إشراف دقيق وتستخدم مجموعة متنوعة من الأعشاب والزيوت والتقنيات المصممة لإزالة “السموم” (Ama) واستعادة توازن “الدوشا” (Doshas)، وهو إطار مفاهيمي مختلف تمامًا عن شرب زيت الزيتون لطرد الحصوات.

لذلك، فإن “تنظيف المرارة” بشكله الحالي هو إلى حد كبير اختراع حديث في عالم “الصحة البديلة” وليس له جذور حقيقية في أنظمة الطب التقليدي العريقة.

الخلاصة: العلم مقابل التفكير السحري

في نهاية المطاف، يكشف تحليل “تنظيف المرارة” عن فجوة كبيرة بين الادعاءات المبهرة والحقائق العلمية. إنها ممارسة مبنية على سوء فهم للكيمياء (التصبّن)، والتشريح (حجم القنوات الصفراوية)، والفيزيولوجيا (أعراض انسداد القناة الصفراوية). ما يتم الترويج له على أنه “حصوات” مطرودة ليس سوى كرات من الصابون المصنوع منزليًا داخل أمعائك.

الأخطر من ذلك، أن هذه الخدعة ليست بريئة، بل يمكن أن تعرض الأشخاص الذين يعانون بالفعل من مشاكل في المرارة لخطر حقيقي، مما قد يحول حالة يمكن إدارتها إلى حالة طبية طارئة. النصيحة الطبية الموحدة هي استشارة طبيب لتقييم حالة حصوات المرارة ومناقشة خيارات العلاج القائمة على الأدلة، والتي قد تشمل المراقبة، أو الأدوية، أو الجراحة عند الضرورة. إن الاعتماد على العلم والأدلة هو دائمًا الطريق الأكثر أمانًا وفعالية للحفاظ على صحتنا.


تنويه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تثقيفية فقط، ولا يعتبر نصيحة طبية. استشر طبيبك دائمًا قبل اتخاذ أي قرارات تتعلق بصحتك.