هل يمكن أن يصبح استئصال المرارة، إحدى أكثر العمليات الجراحية شيوعاً في العالم، شيئاً من الماضي بالنسبة لبعض المرضى؟ في عالم الطب الذي يتطور باستمرار، تظهر تقنيات جديدة تعد بعلاج فعال لمشكلة حصوات المرارة المؤلمة مع الحفاظ على العضو نفسه، مما يمثل نقلة نوعية في نهج العلاج. تقليدياً، كان الحل الجذري هو إزالة المرارة بالكامل، لكن إجراءً طبياً متطوراً بدأ يكتسب زخماً كبديل واعد، خاصة للمرضى الذين لا يستطيعون تحمل التخدير العام أو الجراحة الكبرى.
في مقطع فيديو تعليمي حديث، تم استعراض تقنية مبتكرة تعرف باسم “استئصال حصوات المرارة عن طريق الجلد” (Percutaneous Cholecystolithotomy - PCCL). هذا الإجراء الدقيق والموجه بالأشعة يسمح للأطباء بالوصول إلى المرارة وتفتيت الحصوات وإزالتها عبر فتحة صغيرة في الجلد، دون الحاجة إلى شق جراحي كبير، مما يفتح آفاقاً جديدة للمرضى ويحافظ على وظيفة المرارة الحيوية في عملية الهضم.
فهم المشكلة: لماذا تتكون حصوات المرارة؟
قبل الخوض في تفاصيل التقنية، من المهم فهم طبيعة المشكلة. المرارة هي عضو صغير على شكل كمثرى يقع تحت الكبد، وتتمثل وظيفتها الرئيسية في تخزين وتركيز العصارة الصفراوية التي ينتجها الكبد. تساعد هذه العصارة في هضم الدهون. تتكون حصوات المرارة (Gallstones) عندما تتصلب مواد في العصارة الصفراوية، مثل الكوليسترول أو البيليروبين (صبغة تنتج عن تكسر خلايا الدم الحمراء)، لتشكل جسيمات شبيهة بالحصى. يمكن أن يتراوح حجم هذه الحصوات من حبة رمل إلى كرة جولف، وقد لا تسبب أي أعراض لسنوات، ولكنها عندما تسد القنوات الصفراوية، فإنها تؤدي إلى ألم شديد ومفاجئ يعرف باسم “المغص الصفراوي”، بالإضافة إلى مضاعفات خطيرة مثل التهاب المرارة أو البنكرياس.
التقنية المبتكرة خطوة بخطوة
يوضح الفيديو الطبي الإجراء الدقيق الذي يتبعه الأطباء لتخليص المريض من هذه الحصوات مع الحفاظ على المرارة. يتم الإجراء عادةً بواسطة أخصائي الأشعة التداخلية (Interventional Radiologist) ويتضمن الخطوات التالية:
1. تأكيد الوصول وتخطيط المسار: تبدأ العملية بتحديد موقع أنبوب موجود مسبقاً يعرف باسم “أنبوب فغر المرارة” (Cholecystostomy tube)، والذي قد يكون قد تم وضعه في وقت سابق لتخفيف التهاب حاد في المرارة. يتم حقن صبغة تباين عبر هذا الأنبوب تحت التنظير التألقي (Fluoroscopy)، وهو نوع من التصوير بالأشعة السينية يسمح برؤية الأعضاء الداخلية في الوقت الفعلي. تساعد هذه الخطوة في تقييم حجم وعدد الحصوات والتأكد من أن القناة الكيسية (Cystic Duct)، التي تربط المرارة بالقناة الصفراوية الرئيسية، مفتوحة وسليمة.
2. تأمين المسار إلى المرارة: بعد التأكد من الموقع، يتم إدخال سلك دقيق ومرن (Guide Wire) عبر الأنبوب الموجود إلى داخل المرارة. يعمل هذا السلك كمسار آمن وموجه للأدوات التالية. بمجرد أن يستقر السلك في مكانه، يتم إزالة أنبوب فغر المرارة الأصلي.
3. توسيع القناة للوصول الآمن: في هذه المرحلة، يتم إدخال قسطرة خاصة تسمى “قسطرة نيفروماكس” (Nephromax catheter) فوق السلك الموجه. تحتوي هذه القسطرة على بالون يتم نفخه لتوسيع المسار عبر الجلد والأنسجة وصولاً إلى المرارة. يخلق هذا التوسيع قناة عمل يبلغ قطرها حوالي 1 سم، وهي كافية لإدخال الأدوات اللازمة لتفتيت وإزالة الحصوات.
4. الرؤية المباشرة وتفتيت الحصوات: بعد إنشاء قناة العمل، يتم إدخال منظار داخلي دقيق (Percutaneous Endoscope) عبر أنبوب نيفروماكس. يوفر هذا المنظار رؤية فيديو مباشرة وواضحة لداخل المرارة، مما يسمح للطبيب بتحديد مواقع الحصوات بدقة. تبدأ بعد ذلك عملية التفتيت باستخدام إحدى طريقتين رئيسيتين:
- ليزر الهولميوم (Holmium Laser): يتم إدخال ألياف ليزر رفيعة عبر قناة العمل في المنظار. يصدر الليزر نبضات طاقة عالية تقوم بتكسير الحصوات الكبيرة إلى شظايا أصغر يمكن إزالتها بسهولة.
- تفتيت الحصوات الكهروهيدروليكي (Electrohydraulic Lithotripsy - EHL): كبديل لليزر، يمكن استخدام مسبار EHL الذي يولد موجات صدمة هيدروليكية صغيرة في طرفه لتفتيت الحصوات.
الأدلة العلمية تدعم التقنية
عند البحث عن أدلة علمية حول فعالية وسلامة هذا الإجراء، نجد أن المجتمع الطبي قد درس تقنية PCCL بشكل جيد، خاصة للمرضى الذين يعتبرون “عاليي الخطورة” للجراحة التقليدية. على سبيل المثال، وجدت دراسة مراجعة منهجية وتحليل تلوي (meta-analysis) نُشرت في مجلة Diagnostic and Interventional Radiology عام 2019 أن PCCL هي طريقة آمنة وفعالة لإزالة حصوات المرارة لدى المرضى الذين يعانون من أعراض والذين لا يصلحون للجراحة. وخلصت الدراسة إلى أن معدلات النجاح في إزالة الحصوات بالكامل كانت مرتفعة، مع معدل منخفض من المضاعفات. يمكن الاطلاع على الدراسة هنا.
كما أشار الدكتور ثورستن गेन्सर (Thorsten Gänser)، وهو خبير بارز في هذا المجال، في منشوراته إلى أن الحفاظ على المرارة قد يكون مفيداً من الناحية الفسيولوجية، وأن PCCL يقدم خياراً علاجياً قيماً لهذه الفئة من المرضى.
5. تنظيف المرارة بالكامل: بعد تفتيت الحصوات إلى قطع صغيرة، يستخدم الطبيب مجموعة متنوعة من الأدوات لإزالتها، بما في ذلك سلال استرجاع الحصوات (Stone Retrieval Baskets) وهي أدوات شبكية دقيقة تُفتح داخل المرارة لالتقاط الشظايا وسحبها للخارج. كما يتم استخدام تقنيات الري (Irrigation) لغسل المرارة والتأكد من خلوها تماماً من أي بقايا. في بعض المراكز الطبية المتقدمة، يتم استخدام جهاز “ShockPulse lithotripter” الذي يجمع بين التفتيت بالموجات الصدمية والشفط المتزامن، مما يسرع عملية إزالة الحصوات المسحوقة.
6. الرعاية بعد الإجراء والعودة إلى الحياة الطبيعية: بعد التأكد من تنظيف المرارة بالكامل، يتم إزالة أنبوب نيفروماكس ووضع أنبوب تصريف أصغر حجماً ومرناً يسمى “أنبوب التصريف ذو الذيل الخنزيري” (Pigtail Drain). يتم التأكد من وضعه الصحيح عبر حقن صبغة مرة أخرى. يُترك هذا الأنبوب متصلاً بكيس تصريف خارجي لمدة 24 إلى 48 ساعة.
بعد هذه الفترة، يتم إغلاق الأنبوب (Capping) ويبدأ المريض فترة اختبار تعرف بـ “فترة اختبار الإغلاق” (Capping Trial) لمدة أسبوعين. الهدف من هذه الفترة هو التأكد من أن المرارة قادرة على التصريف بشكل طبيعي إلى الجهاز الهضمي دون مساعدة خارجية. إذا مر المريض بهذه الفترة دون الشعور بألم أو ظهور أعراض، فهذا دليل على نجاح الإجراء وعودة الوظيفة الطبيعية للمرارة. عندها فقط، يتم إزالة أنبوب التصريف بشكل نهائي، ليبدأ المريض “حياة خالية من الأنابيب”.
مقارنة مع العلاجات الأخرى: نظرة شاملة
الجراحة التقليدية (استئصال المرارة): الحل الأكثر شيوعاً لحصوات المرارة المصحوبة بأعراض هو استئصال المرارة بالمنظار (Laparoscopic Cholecystectomy). إنه إجراء آمن وفعال بشكل عام، ويحل المشكلة بشكل نهائي لأنه يزيل العضو بأكمله، وبالتالي لا يمكن للحصوات أن تتكون مرة أخرى. ومع ذلك، فهو يتطلب تخديراً عاماً، وقد يعاني بعض المرضى بعد الجراحة من مشاdكل هضمية مثل الإسهال، فيما يعرف بـ “متلازمة ما بعد استئصال المرارة”.
الطب التقليدي والبديل: في أنظمة الطب التقليدي مثل الأيورفيدا (Ayurveda) الهندي والطب الصيني التقليدي (TCM)، يتم التعامل مع مشاكل المرارة من خلال تعديلات غذائية صارمة واستخدام الأعشاب. على سبيل المثال، يُستخدم الخرشوف (Artichoke) وعشبة حليب الشوك (Milk Thistle)، التي تعرف في بعض البلدان العربية باسم “السلبين المريمي”، لدعم صحة الكبد وتدفق الصفراء. في المغرب العربي، تستخدم عشبة “البולדو” (Boldo) لنفس الغرض. ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أنه بينما قد تساعد هذه الأapproaches في الوقاية أو إدارة الأعراض الخفيفة، لا يوجد دليل علمي قوي يثبت قدرتها على إذابة الحصوات الكبيرة الموجودة بالفعل. يجب دائماً استشارة الطبيب قبل استخدام أي علاجات عشبية، خاصة مع وجود حالة طبية مشخصة.
من هو المرشح المثالي لهذه التقنية؟
تقنية PCCL ليست للجميع. يعتبر المرشحون المثاليون لها هم:
- المرضى كبار السن أو الذين يعانون من حالات طبية أخرى معقدة (مثل أمراض القلب أو الرئة الشديدة) تجعلهم غير قادرين على تحمل التخدير العام والجراحة الكبرى.
- المرضى الذين يرغبون في الحفاظ على المرارة وتجنب الآثار الجانبية المحتملة لإزالتها.
- المرضى الذين يعانون من حصوات كبيرة جداً يصعب إزالتها بالمنظار التقليدي عبر القنوات الصفراوية.
أحد العيوب المحتملة لهذه التقنية هو احتمالية تكرار تكون الحصوات في المستقبل، حيث أن المرارة التي كونت الحصوات مرة قد تكون عرضة لتكوينها مرة أخرى. تشير الدراسات إلى أن معدل تكرار الحصوات يتراوح بين 10% و 30% على مدى عدة سنوات، وهو اعتبار مهم يجب مناقشته مع الطبيب.
خاتمة: مستقبل علاج حصوات المرارة
يمثل “استئصال حصوات المرارة عن طريق الجلد” (PCCL) مثالاً رائعاً على كيفية تطور الطب نحو إجراءات أقل توغلاً وأكثر حفاظاً على الأعضاء. إنه يوفر أملاً وحلاً فعالاً لفئة من المرضى كانت خياراتهم محدودة في السابق. من خلال الجمع بين التصوير المتقدم وأدوات التفتيت الدقيقة، يمكن للأطباء الآن معالجة المشكلة من جذورها مع الحفاظ على التشريح والوظيفة الطبيعية للجسم قدر الإمكان. مع استمرار تحسن التكنولوجيا وزيادة الخبرة في هذا المجال، قد تصبح هذه التقنية خياراً أكثر شيوعاً في المستقبل، مما يغير الطريقة التي نفكر بها في علاج واحدة من أكثر الحالات الطبية إزعاجاً.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تعليمية وتثقifية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائماً استشارة الطبيب المختص لتشخيص حالتك والحصول على العلاج المناسب.