هل يمكن حقًا أن يكون السر في علاج حصوات المرارة، التي تدفع آلاف المرضى سنويًا إلى غرف العمليات، مخبأً في خزانة الأعشاب القديمة؟ هذا السؤال يطرح نفسه بقوة في عصر يتزايد فيه الاهتمام بالحلول الطبيعية. فبينما يعتبر الطب الحديث استئصال المرارة حلاً شبه نهائي للحصوات المصحوبة بأعراض، تظهر بين الحين والآخر أصوات تروج لوصفات تقليدية يُقال إنها قادرة على إذابة هذه الحصوات وتجنيب المريض مشرط الجراح.
في أحد مقاطعه المتداولة على يوتيوب، تطرق الخبير في التغذية الدكتور محمد الفايد إلى هذا الموضوع الشائك، مقدمًا وصفة طبيعية تعتمد على مكونين رئيسيين هما “عروق الصباغين” و”الكمون الكهرماني”. يرى الدكتور الفايد أن هذه الخلطة قد تكون فعالة في إذابة حصوات المرارة، خاصة أنها تتكون بشكل أساسي من الكوليسترول. لكن، ما مدى دقة هذه المعلومات؟ وهل تقف هذه الوصفة التقليدية صامدة أمام ميزان البحث العلمي الحديث؟ في هذا التقرير المفصل، سنغوص في أعماق هذه الادعاءات، ونحلل مكونات الوصفة، ونبحث عن الأدلة العلمية التي تدعمها أو تدحضها، مع استعراض آراء خبراء آخرين والحلول المتاحة في الطب الحديث.
فهم حصوات المرارة: حينما يتحول الكوليسترول إلى حجر
قبل الخوض في تفاصيل العلاجات، من الضروري فهم طبيعة المشكلة. المرارة (Gallbladder) هي كيس صغير يقع تحت الكبد، وتتمثل وظيفتها الرئيسية في تخزين وتركيز العصارة الصفراوية (Bile) التي ينتجها الكبد. هذه العصارة ضرورية لهضم الدهون في الأمعاء الدقيقة. تتكون العصارة الصفراوية من الماء، الكوليسترول، الدهون، أملاح الصفراء، والبيليروبين (Bilirubin)، وهو صبغة تنتج عن تكسر خلايا الدم الحمراء.
تتكون حصوات المرارة (Gallstones) عندما يحدث خلل في توازن مكونات العصارة الصفراوية. وكما أشار الدكتور الفايد في حديثه، فإن النوع الأكثر شيوعًا، والذي يمثل حوالي 80% من الحالات، هو حصوات الكوليسترول. تتشكل هذه الحصوات عندما تحتوي العصارة الصفراوية على كمية من الكوليسترول تفوق قدرة أملاح الصفراء على إذابتها. بمرور الوقت، يتبلور هذا الكوليسترول الزائد ويتحول إلى حصوات صلبة.
الخطر الذي تحدث عنه الدكتور الفايد يكمن في تحرك هذه الحصوات. إذا بقيت الحصوة في المرارة دون أن تسبب انسدادًا، فقد لا يشعر الشخص بأي أعراض على الإطلاق، وهو ما يطلق عليه “الحصوات الصامتة”. يتوافق هذا مع المبدأ الطبي المعروف بـ “الانتظار والمراقبة” (Watchful Waiting).
لكن المشكلة تبدأ عندما تتحرك حصوة وتسد عنق المرارة أو القناة الصفراوية المشتركة (Common Bile Duct). هذا الانسداد يمنع تدفق العصارة الصفراوية، مما يؤدي إلى ألم شديد ومفاجئ في الجزء العلوي الأيمن من البطن، يُعرف بالمغص الصفراوي (Biliary Colic). وإذا استمر الانسداد، يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة مثل التهاب المرارة (Cholecystitis) أو ما أشار إليه المتحدث بالـ “Obstructive Jaundice” أو اليرقان الانسدادي. يحدث اليرقان الانسدادي عندما لا تتمكن مادة البيليروبين من الخروج عبر القناة الصفراوية، فتتراكم في الدم، مما يسبب اصفرار الجلد والعينين. في هذه الحالة، يصبح التدخل الطبي، وغالبًا ما يكون جراحيًا، أمرًا ضروريًا.
تحليل الوصفة المقترحة: “عروق الصباغين” و”الكمون الكهرماني”
طرح الدكتور الفايد وصفة تعتمد على مكونين قد يبدوان غريبين للبعض. دعونا نحلل كل مكون على حدة ونبحث عن أصله وأي دليل علمي محتمل يدعم استخدامه.
1. عروق الصباغين (Madder Root)
“عروق الصباغين” هو الاسم الشائع لنبات الفوة الصبغية (Rubia tinctorum). هذا النبات معروف منذ آلاف السنين، حيث استُخدمت جذوره لإنتاج صبغة حمراء زاهية. وفي الطب التقليدي، اكتسب شهرة واسعة كعلاج لأمراض المسالك البولية.
الأسماء المختلفة: يُعرف في المغرب باسم “تاروبيا”، وفي بعض مناطق الشام ومصر باسم “الفوة”.
الأدلة العلمية: عند البحث في الأدبيات العلمية، نجد أن شهرة “عروق الصباغين” تتركز بشكل شبه كامل على قدرتها في التعامل مع حصوات الكلى، وليس حصوات المرارة.
- تحتوي جذور الفوة على مركبات نشطة تسمى الأنثراكينونات (Anthraquinones)، وأشهرها الأليزارين (Alizarin) والروبيريثرين (Ruberythrin).
- أظهرت العديد من الدراسات أن هذه المركبات لها القدرة على الارتباط بأيونات الكالسيوم، مما يمنع تكون بلورات أكسالات الكالسيوم وفوسفات الكالسيوم، وهي المكونات الرئيسية لأغلب حصوات الكلى.
- دراسة مراجعة (Review) نُشرت في مجلة Phytomedicine عام 2018، حللت الأبحاث المتاحة حول Rubia tinctorum وأكدت أن الأدلة تدعم بقوة استخدامها التقليدي في الوقاية من وعلاج حصوات الكلى (Nephrolithiasis).
- دراسة حيوانية أجريت على الفئران وأظهرت أن مستخلص النبات يقلل من ترسب بلورات أكسالات الكالسيوم في الكلى.
لكن، ماذا عن حصوات المرارة؟ هنا تكمن المشكلة. حصوات المرارة، كما ذكرنا، تتكون أساسًا من الكوليسترول، بينما تتكون حصوات الكلى غالبًا من أملاح الكالسيوم. آلية العمل التي تجعل “عروق الصباغين” فعالة ضد حصوات الكلى (الارتباط بالكالسيوم) قد لا تكون ذات صلة بحصوات الكوليسترول. عند البحث عن دراسات تربط بين Rubia tinctorum وحصوات المرارة (Cholelithiasis)، لم نجد أي دليل علمي قوي أو دراسات سريرية بشرية تدعم هذا الاستخدام. يبدو أن هناك خلطًا شائعًا بين نوعي الحصوات، وهو أمر يجب الانتباه إليه.
التشابه في الطب التقليدي: في الطب الأيورفيدي الهندي، يُستخدم نبات قريب يسمى Rubia cordifolia (Manjistha) كمنقٍ للدم ومضاد للالتهابات، ولكن استخدامه الرئيسي ليس لإذابة حصوات المرارة.
2. الكمون الكهرماني (Amber Cumin)
هذا هو المكون الأكثر غموضًا في الوصفة. مصطلح “الكمون الكهرماني” ليس مصطلحًا علميًا معتمدًا، ويبدو أنه اسم دارج في بعض وصفات الطب الشعبي. هناك عدة احتمالات لما قد يعنيه:
- حجر الكهرمان المطحون: الكهرمان (Amber) هو راتنج (resin) متحجر من الأشجار الصنوبرية القديمة. في بعض التقاليد الأوروبية القديمة، كان يُعتقد أن له خصائص علاجية، ولكن لا يوجد أي أساس علمي لاستخدامه في إذابة الحصوات. بل إن تناوله قد يكون ضارًا.
- راتنج نباتي شبيه بالكهرمان: قد يشير الاسم إلى راتنجات نباتية أخرى تشبه الكهرمان في لونها، مثل راتنج نبات Vateria indica (المعروف بالدامار الأسود أو الكوبال الهندي). في الطب الأيورفيدي، يستخدم هذا الراتنج (Sarja) لخصائصه المطهرة والمضادة للالتهابات، ولكن ليس لإذابة الحصوات.
- نوع نادر من الكمون: قد يكون اسمًا محليًا لنوع غير شائع من النباتات من الفصيلة الخيمية (Apiaceae)، التي ينتمي إليها الكمون العادي.
الأدلة العلمية: بغض النظر عن الاحتمال الصحيح، فإن البحث في قواعد البيانات العلمية عن “الكمون الكهرماني”، “Amber Cumin”، أو حتى عن “Vateria indica and gallstones” لم يسفر عن أي نتائج تذكر. لا توجد دراسات (لا مخبرية، ولا حيوانية، ولا بشرية) تدعم فكرة أن هذا المكون قادر على إذابة حصوات المرارة. هذا الغياب التام للأدلة يجعل الاعتماد عليه أمرًا محفوفًا بالمخاطر.
رأي الطب الحديث وخبراء آخرون
في مواجهة نقص الأدلة على فعالية الوصفة المقترحة، من المهم النظر إلى ما يقدمه الطب الحديث وآراء خبراء آخرين في مجال الصحة الطبيعية.
1. المراقبة والانتظار (Watchful Waiting): كما ذكرنا، إذا كانت الحصوات لا تسبب أعراضًا، فإن معظم الأطباء يوصون بعدم التدخل، وهذا يتفق مع وجهة نظر الدكتور الفايد.
2. الإذابة الدوائية (Oral Dissolution Therapy): يوجد دواء يسمى حمض أورسوديوكسيكوليك (Ursodeoxycholic acid - UDCA)، وهو حمض صفراوي طبيعي يمكنه إذابة حصوات الكوليسترول الصغيرة.
- فعاليته: هذا العلاج فعال فقط للحصوات الصغيرة (أقل من 1.5 سم) المكونة من الكوليسترول النقي، وفي المرضى الذين لديهم مرارة قادرة على العمل.
- عيوبه: العلاج يستغرق وقتًا طويلاً (من 6 أشهر إلى سنتين)، ومعدلات النجاح ليست عالية جدًا. بالإضافة إلى ذلك، هناك احتمال كبير لعودة الحصوات مرة أخرى بعد التوقف عن تناول الدواء.
3. الجراحة (Cholecystectomy): استئصال المرارة بالمنظار هو العلاج الأكثر شيوعًا وفعالية للحصوات التي تسبب أعراضًا متكررة أو مضاعفات. يعتبر إجراءً آمنًا نسبيًا، ويمكن لمعظم الناس العيش بشكل طبيعي تمامًا بدونه، حيث يتدفق الصفراء مباشرة من الكبد إلى الأمعاء.
آراء خبراء آخرين في الطب الطبيعي: العديد من الخبراء في مجال الصحة الطبيعية، مثل الدكتور جوش آكس (Dr. Josh Axe) والدكتور أندرو ويل (Dr. Andrew Weil)، يركزون على الوقاية وتغيير نمط الحياة كخطوة أولى. تشمل توصياتهم:
- نظام غذائي غني بالألياف: من الفواكه والخضروات والحبوب الكاملة.
- دهون صحية: مثل زيت الزيتون والأفوكادو.
- تجنب الأطعمة المصنعة والدهون المشبعة.
- الحفاظ على وزن صحي: السمنة وزيادة الوزن من عوامل الخطر الرئيسية.
- بعض المكملات: هناك اهتمام بمكملات مثل TUDCA (شكل من أملاح الصفراء)، ومستخلص عشبة حليب الشوك (Milk Thistle) لدعم صحة الكبد، وزيت النعناع (Peppermint Oil) الذي قد يساعد في تخفيف الأعراض. ومع ذلك، يؤكد هؤلاء الخبراء أن هذه المكملات قد تساعد في دعم وظائف المرارة أو منع تكون الحصوات، ولكن الأدلة على قدرتها على إذابة الحصوات الموجودة بالفعل لا تزال محدودة وتحتاج إلى المزيد من البحث.
خلاصة: بين الحكمة التقليدية والدليل العلمي
في ختام هذا التحليل، نجد أنفسنا أمام صورة معقدة. النصيحة التي قدمها الدكتور الفايد بشأن عدم التعامل مع الحصوات الصامتة تتوافق تمامًا مع الممارسات الطبية الحديثة. ومع ذلك، فإن الوصفة العلاجية التي اقترحها تفتقر إلى الدعم العلمي القوي.
- عروق الصباغين (Rubia tinctorum): أثبتت فعاليتها في دراسات متعددة ضد حصوات الكلى المكونة من الكالسيوم، ولكن لا يوجد دليل موثوق على فعاليتها ضد حصوات المرارة المكونة من الكوليسترول.
- الكمون الكهرماني: يظل مكونًا غامضًا، والأهم من ذلك، أنه لا توجد أي دراسات علمية تدعم استخدامه لإذابة أي نوع من الحصوات.
إن العودة إلى الطبيعة خيار جذاب للكثيرين، والطب التقليدي يحمل في طياته حكمة قديمة لا يمكن إنكارها. لكن في حالات طبية محددة مثل حصوات المرارة المصحوبة بأعراض، يصبح الاعتماد على علاجات غير مثبتة علميًا مخاطرة قد تؤدي إلى تفاقم المشكلة وتأخير الحصول على الرعاية الطبية اللازمة، مما قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة. من الضروري دائمًا الموازنة بين الخيارات المتاحة، واستشارة طبيب متخصص قبل تجربة أي علاج جديد، سواء كان تقليديًا أو حديثًا.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائمًا استشارة الطبيب قبل اتخاذ أي قرارات تتعلق بصحتك.