هل يمكن أن تكون المعاناة النفسية مجرد وهم يمكن التحرر منه؟ في عالم يضج بالقلق والضوضاء الذهنية، قد تبدو فكرة السكينة الداخلية بعيدة المنال. لكن ماذا لو كانت هناك ممارسة روحية عريقة، تم الحفاظ على جوهرها في سرية تامة لما يقرب من 900 عام، تحمل مفتاح تفكيك هذا الوهم؟ إنها ممارسة “الذكر” الحقيقي، ليس كما هو شائع، بل كتقنية جراحية دقيقة للوعي، قادرة على إحداث تحول جذري في إدراكنا للواقع.
في فيديو حديث على يوتيوب، تم تسليط الضوء على هذه الممارسة من خلال قصة الكاتب الروحي الشهير إيكهارت تول، مؤلف كتاب “قوة الآن”. يروي تول كيف أن زيارة له إلى زاوية صوفية صغيرة في القاهرة عام 1980، غيرت فهمه لمعنى الذكر بشكل كامل، وكشفت له عن أسرار كان شيوخ الصوفية مثل جلال الدين الرومي وابن عربي والإمام الغزالي يدركونها ويمارسونها في عمق تجربتهم الروحية. الذكر، في جوهره الأصيل، ليس مجرد ترديد آلي لكلمات مقدسة، بل هو بوابة مباشرة لتفكيك “الأنا” (Ego) والعودة إلى حالة من الحضور المطلق.
الذكر الحقيقي: ما وراء الترديد
يوضح المتحدث أن الذكر الذي شهده تول لم يكن فعلاً، بل كان “توقفاً عن الفعل”. فالإنسان العادي، دون أن يدرك، يقضي حياته في دعم وهم الانفصال، وتغذية الأنا من خلال التفكير القهري والسرديات الذهنية المستمرة عن الماضي والمستقبل. الذكر الصوفي الأصيل هو تقنية لإيقاف هذه العملية، ليس بمحاربة العقل بالعقل، بل بتجاوزه عبر ثلاث بوابات متزامنة تؤدي إلى ما أسماه الرومي “الموت قبل الموت”، أي موت الأنا الزائفة قبل موت الجسد.
البوابة الأولى: التنفس كمرساة للحضور
على عكس العديد من تقاليد التأمل التي تركز على التحكم في التنفس، فإن البوابة الأولى في الذكر الصوفي تعتمد على “الشهود” فقط. الممارسة تبدأ بالجلوس ومراقبة عملية التنفس الطبيعية، الشعور بالشهيق والزفير دون أي محاولة لتغييره أو التلاعب به.
يصف تول هذه الحالة بـ”الاستسلام للحظة الحاضرة”، وهو ما أطلق عليه الصوفيون “التسليم”. هذا ليس تسليماً سلبياً، بل هو حضور واعٍ مع ما هو كائن. عندما تتوقف عن محاولة السيطرة، فإنك تخلق فجوة في هيمنة الأنا التي تعيش على الفعل والتحكم.
الدليل العلمي: عند البحث عن أدلة علمية، نجد أن هذه الممارسة تتوافق تمامًا مع ما يعرف بـ”التأمل باليقظة الذهنية” (Mindfulness Meditation). أظهرت دراسات عديدة، بما في ذلك مراجعة منهجية (Systematic Review) من عام 2018 منشورة في مجلة PLOS ONE، أن مراقبة التنفس دون حكم تنشط الجهاز العصبي السمبثاوي (Parasympathetic Nervous System)، المسؤول عن استجابة “الراحة والهضم”، مما يقلل من التوتر ومعدل ضربات القلب. علاوة على ذلك، وجدت دراسة تصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) من جامعة ييل أن ممارسة اليقظة الذهنية تقلل من نشاط “شبكة الوضع الافتراضي” (Default Mode Network) في الدماغ، وهي الشبكة المرتبطة بالتفكير الذاتي الشرودي وأحلام اليقظة، والتي تعتبر المعقل العصبي للأنا. عندما يهدأ هذا النشاط، يزداد الحضور في اللحظة الحالية.
البوابة الثانية: الاسم المقدس كتفكيك للسرد الذهني
هنا يكمن الخطأ الأكثر شيوعاً في فهم الذكر. التقنية الصوفية لا تقوم على “تكرار” اسم مقدس (مثل الله، هو، يا حي) بشكل ذهني، لأن ذلك سيبقينا في إطار العقل. بدلاً من ذلك، تعتمد على “الاستماع” للاسم في فجوة الصمت الدقيقة بين الشهيق والزفير.
يشرح الشيخ الصوفي لإيكهارت تول أن الاسم المقدس ليس صوتاً تصدره أنت، بل هو “الصوت الذي كوّنك”. إنه اهتزاز أصيل موجود بالفعل في قلب السكون، وما على الممارس إلا أن يكون هادئاً بما يكفي ليدركه. عندما يتحول الانتباه من التفكير إلى الاستماع العميق، تتلاشى السردية العقلية (قصة “أنا” ومشاكلي وماضيّ ومستقبلي)، لأن الاستماع الحقيقي يتطلب حضوراً كاملاً لا يترك مساحة للأنا.
التشابه مع التقاليد الأخرى: هذه الفكرة لها أصداء عميقة في تقاليد أخرى. في الهندوسية والبوذية، يُستخدم “المانترا” (Mantra) مثل “أوم” (Om) ليس فقط ككلمة تُردد، بل كصوت كوني يُعتقد أن تردده هو أصل الوجود. الهدف هو الشعور بالاهتزاز والذوبان في الصمت الذي يسبقه ويليه، وهو ما يسمى “أناهاتا نادا” (Anahata Nada) أو الصوت غير المضروب. كما أن مفهوم “وو وي” (Wu Wei) في الطاوية، والذي يعني “الفعل دون فعل” أو “الفعل السلس”، يتماشى مع فكرة التوقف عن الجهد والسماح للوجود بالكشف عن نفسه.
البوابة الثالثة: الجسد الداخلي كمساحة للإدراك
البوابة الثالثة، والأكثر قوة، هي توجيه الانتباه إلى داخل الجسد، ليس للتفكير فيه، بل للشعور به كحقل من الطاقة الحية. يصف تول هذا في كتبه بـ”الشعور بالجسد الداخلي” (Inner Body Awareness). عندما تشهد التنفس (البوابة الأولى) وتستمع للاسم في الصمت (البوابة الثانية)، فإنك تجلب وعيك من الرأس إلى كامل الجسد، لتسكنه بالكامل لأول مرة.
هذا الشعور بالجسد من الداخل يقطع آخر دعامة للأنا، وهي الانفصال. فالأنا تعيش في الرأس، منفصلة عن حيوية الجسد. عندما تشعر بالجسد الداخلي، فإنك تتصل بمساحة واسعة من الوعي تتجاوز حدود الفكر.
الدليل العلمي: هذه الممارسة تتصل مباشرة بالمفهوم العلمي لـ”الإدراك الداخلي” (Interoception)، وهو قدرة الدماغ على الإحساس بالحالات الداخلية للجسد. أظهرت دراسة نشرت في مجلة “Frontiers in Psychology” أن ممارسي التأمل المتمرسين لديهم وعي إدراكي داخلي أعلى بشكل ملحوظ، وقدرة أكبر على تنظيم عواطفهم. كما ربطت أبحاث أخرى، مثل دراسة من جامعة ساسكس، بين زيادة الوعي الداخلي وتقليل نشاط المناطق الدماغية المرتبطة بالذات، مما يؤدي إلى تجارب “ذوبان الأنا” (Ego Dissolution). الشعور بالجسد الداخلي ينشط قشرة الفص الجزيري (Insular Cortex)، وهي منطقة أساسية للإدراك الداخلي والتعاطف.
الفناء: عندما تذوب الأنا في الحضور
عندما يتم تفعيل البوابات الثلاث في آن واحد، فإن دعائم الأنا الثلاث (السيطرة، السرد، والانفصال) تنهار.
- شهادة التنفس توقف السيطرة.
- الاستماع للاسم المقدس يوقف السرد.
- الشعور بالجسد الداخلي يوقف الانفصال.
وما يتبقى هو ما يسميه الصوفيون “الفناء” أو “الذوبان”. ليس فناءً بمعنى العدم، بل هو إدراك أنك لم تكن أبداً تلك الأنا المنفصلة التي كنت تظنها. لقد كنت دائماً “الوعي الذي يشهد”، الحضور المطلق الذي يسبق الفكر. يتفق مع هذه الفكرة خبراء الوعي المعاصرون مثل سام هاريس، الذي يصف في أعماله كيف أن ممارسات التأمل يمكن أن تؤدي إلى إدراك أن “الذات” التي نشعر بها في رؤوسنا هي مجرد وهم إدراكي.
من النظرية إلى التطبيق: قصة يوسف
لتوضيح الأثر العملي للذكر، يروي المتحدث قصة يوسف، مهندس ناجح كان يعاني من فراغ داخلي وقلق مزمن رغم امتلاكه لكل مقومات السعادة الظاهرية. بعد أن تعلم الذكر ببواباته الثلاث ومارسه لمدة 20 دقيقة يومياً، بدأت حياته تتغير. لم يختفِ القلق، لكنه بدأ “يدرك” القلق كطاقة في جسده بدلاً من التماهي معه. أصبح هو “الوعي الذي يراقب القلق”، مما منحه مساحة وحرية. وعندما شعر بالتهيج، قام بتفعيل البوابة الثالثة وشعر به كإحساس في صدره دون قصة ذهنية، فتلاشى التهيج من تلقاء نفسه، لأن وقود العواطف السلبية هو القصة التي نرويها عنها، وليس الإحساس الجسدي نفسه.
الحضرة: قوة الذكر الجماعي
يكشف المتحدث عن طبقة أعمق للذكر، وهي الممارسة الجماعية أو “الحضرة”. عندما يمارس شخصان أو أكثر الذكر معاً، يتضخم مجال الحضور بشكل كبير. يصف تول تجربته في مصر بأنها كانت خلق “مجال موحد من الحضور”، حيث بدأت الحدود بين الممارسين تتلاشى، وشعر بأن هناك نفساً واحداً ووعياً واحداً يشهد من خلال سبعة أجساد.
الدليل العلمي: بدأ علم الأعصاب مؤخراً في تأكيد هذه الظاهرة. تشير دراسات حول “التزامن بين الأشخاص” (Interpersonal Synchrony) إلى أنه عندما يشارك الأفراد في أنشطة إيقاعية مشتركة (مثل الغناء أو التأمل الجماعي)، تبدأ موجات أدمغتهم ومعدلات ضربات قلوبهم في التزامن. دراسة من جامعة برينستون أظهرت أن أدمغة المتحدث والمستمع تتزامن أثناء التواصل الفعال. يمكن أن يؤدي هذا التزامن الفسيولوجي إلى تعزيز الشعور بالارتباط وتجاوز الحدود الذاتية، وهو ما يصفه الصوفيون بتجربة “وحدة الوجود”.
دمج الذكر في الحياة اليومية
جمال الذكر الحقيقي يكمن في أنه ليس ممارسة منعزلة. الهدف ليس أن تصبح جيداً في الجلوس مغمض العينين، بل أن تنقل هذا الحضور إلى كل لحظة في الحياة. نصح الشيخ الصوفي بممارسة “الوقفات”: التوقف لمدة 30 ثانية كل ساعة لمراقبة نفس واحد بوعي. هذه الممارسات الصغيرة الموزعة على مدار اليوم قد تكون أقوى من ساعة تأمل كاملة، لأنها تدرب الوعي على “التذكر” المستمر في خضم الحياة، مما يعيد تشكيل الدماغ تدريجياً بفضل اللدونة العصبية (Neuroplasticity).
في النهاية، الذكر ليس تقنية لتحسين الذات، بل هو إدراك أنه لا توجد ذات منفصلة تحتاج إلى تحسين من الأساس. إنه دعوة للتوقف عن البحث والتفكير، والبدء في الممارسة والتجربة المباشرة. كما قال الشيخ محمود لإيكهارت تول: “الذكر لا يأخذك إلى الله، الذكر يريك أنك لم تكن منفصلاً أبداً”.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تعليمية وتثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائمًا استشارة متخصص قبل البدء في أي ممارسة قد تؤثر على صحتك الجسدية أو النفسية.