هل يمكن أن يكون السرطان، بضراوته وتعقيداته، مجرد عرض لوجود عدو خفي آخر في الجسم؟ ماذا لو كانت الطفيليات التي نتعايش معها هي الشرارة التي تشعل هذا المرض المدمر؟ في مقطع فيديو حديث، يطرح الدكتور كريم علي هذه الفرضية الجريئة، مستعرضًا الأدلة التاريخية والعلمية حول نبات الشيح (Wormwood)، وهي عشبة ذات تاريخ طويل ومثير للجدل، قد تحمل في طياتها مفاتيح لفهم وعلاج أمراض العصر، وعلى رأسها السرطان.

تاريخ الشيح: من الطب الفرعوني إلى الحظر والعودة القوية

في حديثه، يوضح الدكتور كريم علي أن نبات الشيح، المعروف علميًا باسم Artemisia absinthium، ليس اكتشافًا حديثًا. فقد كان جزءًا لا يتجزأ من الطب المصري القديم، حيث استُخدم لقرون كعلاج فعال للديدان والطفيليات. ومع ذلك، شهد هذا النبات تقلبات حادة في تاريخه الحديث. ففي عام 1912، تم حظره بالكامل في العديد من الدول واستمر هذا الحظر حتى عام 2007.

السبب وراء هذا الحظر لم يكن طبيًا بحتًا، بل ارتبط بمشروب كحولي شهير في أوروبا يُدعى “الأفسنتين” (Absinthe)، والذي كان يُصنع من الشيح. احتوى هذا المشروب على مادة “الثوجون” (Thujone)، وهي المادة الفعالة في الشيح التي يمكن أن تسبب الهلوسة وتأثيرات نفسية قوية بتركيزات عالية، وهو ما جعله المشروب المفضل لفنانين مثل فان جوخ. لكن بعد عقود من الحظر، عاد الشيح إلى الواجهة بقوة مع تزايد الاهتمام بفوائده الطبية المحتملة.

قاتل الطفيليات الأول: هل هنا تكمن بداية القصة؟

يؤكد الدكتور علي أن السمعة الأبرز للشيح تتمثل في قدرته الفائقة على محاربة الطفيليات. يشرح أن آلية عمله فريدة، حيث يتسبب في “خنق” الطفيليات عن طريق حرمانها من الأكسجين، مما يؤدي إلى موتها. هذا الاستخدام التقليدي ليس مجرد حكايات شعبية، بل هو أساس بروتوكولات علاجية حديثة نسبيًا.

يذكر الدكتور علي بروتوكول الدكتورة هولدا كلارك (Hulda Clark)، وهي باحثة أمريكية أثارت الكثير من الجدل، والتي صممت نظامًا لتنظيف الجسم من الطفيليات يعتمد بشكل أساسي على الشيح والقرنفل والجوز الأسود. كانت كلارك تعتقد أن التخلص من الطفيليات خطوة حاسمة في علاج العديد من الأمراض المزمنة، بما في ذلك السرطان.

عند البحث عن أدلة علمية، نجد أن هذا الادعاء مدعوم بقوة. مركب الأرتيميسينين (Artemisinin)، المستخلص من نبات الشيح الحلو (Artemisia annua)، هو أساس العلاج الأكثر فعالية للملاريا على مستوى العالم، وهو ما أدى إلى منح جائزة نوبل في الطب عام 2015 للباحثة الصينية تو يويو لاكتشافها هذا. مراجعة علمية شاملة نشرت في مجلة Molecules عام 2020 أكدت على النشاط الواسع لمركبات الأرتيميسينين ضد مجموعة متنوعة من الطفيليات، بما في ذلك الملاريا، داء المقوسات، وداء الليشمانيات، مما يثبت صحة استخدامه التاريخي كقاتل للطفيليات.

مضاد للالتهابات والألم: من المفاصل إلى عواصف السيتوكين

بعيدًا عن الطفيليات، يبرز الشيح كعامل قوي مضاد للالتهاب ومسكن للألم. يستشهد الدكتور علي بدراسة سريرية (Human Trial) أجريت على 40 مريضًا يعانون من الفصال العظمي (Osteoarthritis) في الركبة. تم إعطاء المرضى كريمًا يحتوي على 3% من مستخلص الشيح لتطبيقه موضعيًا ثلاث مرات يوميًا. بعد أربعة أسابيع، أظهرت النتائج تحسنًا ملحوظًا في الحركة، انخفاضًا كبيرًا في الألم، وتقليلًا في حاجتهم للأدوية المسكنة. عند البحث، نجد أن هذه الدراسة نُشرت في مجلة Phytomedicine عام 2014، مما يؤكد فعالية الاستخدام الموضعي للشيح في تخفيف آلام المفاصل الالتهابية.

كما يوضح الدكتور علي نقطة علمية هامة تتعلق بفيروس كوفيد-19. أحد أخطر مضاعفات الفيروس كانت “عاصفة السيتوكين” (Cytokine Storm)، وهي استجابة مناعية مفرطة تسبب التهابًا شاملاً في الجسم قد يؤدي إلى الوفاة. يذكر أن الشيح لديه القدرة على كبح هذه العاصفة عن طريق تثبيط إنتاج السيتوكينات الالتهابية. دراسات مخبرية (In Vitro) وحيوانية (Animal Studies)، مثل دراسة نشرت في Journal of Ethnopharmacology، أظهرت أن مركبات الشيح تقلل من السيتوكينات الالتهابية مثل (TNF-α) و (IL-6). ورغم عدم وجود تجارب سريرية واسعة النطاق على البشر لعلاج كوفيد-19 بالشيح، إلا أن الآلية العلمية تدعم هذا الاحتمال بقوة.

الشيح والسرطان: المواجهة الكبرى

الجزء الأكثر إثارة في حديث الدكتور علي هو العلاقة بين الشيح والسرطان. هو لا يقدم الشيح كعلاج سحري، بل ككنز علمي يستحق البحث والدراسة، خاصة في العالم العربي. ويشرح أربع آليات رئيسية تجعل من مركبات الشيح، وخصوصًا الأرتيميسينين، سلاحًا محتملاً ضد الخلايا السرطانية:

  1. التحفيز الانتقائي للموت المبرمج (Selective Apoptosis): على عكس العلاج الكيميائي الذي يهاجم الخلايا السليمة والسرطانية معًا، يُظهر الأرتيميسينين قدرة فريدة على استهداف الخلايا السرطانية فقط وتحفيزها على “الانتحار” أو الموت المبرمج، مع ترك الخلايا السليمة دون أذى. مراجعة علمية نشرت في Cancer Letters عام 2008 من قبل الباحثين الرائدين في هذا المجال، هنري لاي وناريندرا سينغ من جامعة واشنطن، كانت من أوائل المراجعات التي سلطت الضوء على هذه الخاصية المذهلة.

  2. استخدام الحديد كرصاصة قاتلة (Iron-Dependent Cytotoxicity): تحتوي الخلايا السرطانية على تركيزات عالية جدًا من الحديد، الذي تحتاجه للانقسام والنمو السريع. يستغل الأرتيميسينين هذه الميزة بطريقة عبقرية. عندما يدخل المركب إلى خلية سرطانية غنية بالحديد، يتفاعل مع الحديد لينتج كميات هائلة من الجذور الحرة (Free Radicals)، وهي جزيئات شديدة التدمير تسبب إجهادًا تأكسديًا هائلاً داخل الخلية السرطانية وتؤدي إلى موتها. يصف الدكتور علي هذه الآلية بأن الشيح “يستخدم الحديد كرصاصات لقتل الخلايا السرطانية”.

  3. وقف إمدادات الدم عن الورم (Anti-Angiogenesis): لكي ينمو الورم السرطاني، يحتاج إلى إمداد مستمر بالدم، فيقوم بتحفيز الجسم على تكوين أوعية دموية جديدة لتغذيته. يُعرف الأرتيميسينين بقدرته على إيقاف هذه العملية، مما يؤدي إلى “تجويع” الورم ومنعه من النمو. ويشير الدكتور علي إلى أن هذه الخاصية تتشابه مع ما تم اكتشافه في حليب الإبل، حيث أظهرت دراسات سعودية، مثل دراسة نشرت في Journal of Biomedicine and Biotechnology، أن حليب الإبل يمتلك أيضًا خصائص مضادة لتكوين الأوعية الدموية الجديدة.

  4. منع انتشار السرطان (Anti-Metastasis): الخاصية الأخطر في السرطان هي قدرته على الانتقال من مكانه الأصلي إلى أعضاء أخرى في الجسم. أظهرت دراسات مخبرية (In Vitro) أن الأرتيميسينين يمكن أن يمنع هجرة الخلايا السرطانية ويحد من قدرتها على الانتشار.

العلاقة الغامضة: هل الطفيليات هي أصل السرطان؟

يعود الدكتور علي إلى فرضيته الأساسية: العلاقة بين الطفيليات والسرطان. يتساءل لماذا تحقق بعض العلاجات المضادة للطفيليات، مثل دواء “فينبيندازول” (Fenbendazole) المستخدم للكلاب، نجاحًا في بعض حالات السرطان المتقدمة حسب قصص متداولة. يرى أن السبب قد لا يكون في الدواء نفسه، بل في أنه يقضي على الطفيليات التي قد تكون هي المحفز الأصلي للسرطان.

هذه الفكرة، رغم أنها تبدو غريبة، لها بعض الأسس العلمية. فقد صنفت منظمة الصحة العالمية بعض أنواع الطفيليات كعوامل مسرطنة من الدرجة الأولى، مثل طفيل البلهارسيا (Schistosoma haematobium) الذي يرتبط بسرطان المثانة. يدعو الدكتور علي الجامعات ومراكز الأبحاث في الدول العربية إلى دراسة هذه العلاقة بعمق، فربما يكون مفتاح علاج السرطان أبسط مما نتخيل.

تحذيرات هامة وموانع الاستخدام

على الرغم من الفوائد الواعدة، يشدد الدكتور علي على أن الشيح ليس عشبة يمكن تناولها دون حذر. فمادة الثوجون يمكن أن تكون سامة بجرعات عالية. ويحدد الفئات التي يجب أن تتجنبه تمامًا:

  • المرأة الحامل والمرضعة.
  • مرضى الصرع: لأن الشيح يثبط ناقلًا عصبيًا مهدئًا في الدماغ يسمى “جابا” (GABA)، مما قد يحفز نوبات الصرع.

ويؤكد على أهمية الجرعة الدقيقة، والتي يجب أن يحددها خبير، حيث أن الجرعة الفعالة من المادة النشطة (الأرتيميسينين) هي حوالي نصف ملليغرام لكل كيلوغرام من وزن الجسم. استخدام جرعة أقل قد لا يعطي أي فائدة، بينما الجرعة الزائدة قد تؤدي إلى تسمم.

خلاصة واستنتاج

يقدم نبات الشيح مثالاً ساطعًا على الكنوز الكامنة في الطب التقليدي والطبيعة. فمن عشبة استخدمها الفراعنة لطرد الديدان، نكتشف اليوم مركبات ذات آليات معقدة ومدهشة في محاربة السرطان في الدراسات المخبرية والحيوانية. يدعم خبراء مثل الدكتور ويليام لي (William Li)، مؤلف كتاب “Eat to Beat Disease”، فكرة أن العديد من المركبات النباتية الطبيعية لها خصائص مضادة للسرطان، بما في ذلك التأثير على الأوعية الدموية التي تغذي الأورام.

إن دعوة الدكتور كريم علي للبحث العلمي في هذا المجال ليست مجرد أمنية، بل هي ضرورة ملحة. فبدلاً من الاعتماد الكلي على الأدوية الكيميائية المستحدثة، قد تكون الإجابات التي نبحث عنها موجودة في صيدلية الطبيعة التي استخدمها أجدادنا لآلاف السنين.


تنويه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائمًا استشارة الطبيب قبل البدء في أي علاج.