في عالم يتسارع فيه التقدم الطبي، قد تبدو فكرة علاج أمراض مستعصية مثل المياه الزرقاء (الجلوكوما) من خلال علاج طبيعي بسيط ضربًا من الخيال. لكن ماذا لو كان هذا العلاج يكمن في فطر صحراوي نادر، عرفته الحضارات القديمة واستخدمته لقرون؟ في مقطع فيديو حديث على يوتيوب، أشار متحدث إلى الإمكانات الهائلة للكمأة، مستندًا إلى إرث تاريخي وديني وبحوث علمية حديثة، مما يفتح الباب أمام تساؤلات ملحة حول حقيقة هذا “الكنز” الصحراوي وقدرته على شفاء أمراض العيون التي تهدد ملايين البشر حول العالم.

ما هي الكمأة: الكنز المخفي تحت الأرض؟

الكمأة، المعروفة في بعض المناطق مثل دول الخليج العربي باسم “الفقع”، وفي مناطق أخرى “نبات الرعد”، هي نوع من الفطريات اللاجذرية التي تنمو تحت سطح الأرض في الصحاري، بالقرب من جذور أنواع معينة من النباتات الصحراوية، وتظهر عادة بعد مواسم الأمطار الرعدية، ومن هنا جاءت بعض تسمياتها.

تاريخيًا، حظيت الكمأة بتقدير كبير ليس فقط لقيمتها الغذائية العالية، بل أيضًا لخصائصها العلاجية. وهي تختلف عن فطر “الترفل” الأوروبي الباهظ الثمن، فالكمأة الصحراوية (من أجناس مثل Terfezia و Tirmania) لها خصائصها الفريدة التي جعلتها جزءًا من الطب التقليدي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعدة قرون.

الإرث التاريخي والديني: “ماءها شفاء للعين”

يستند الاهتمام الحديث بالكمأة في علاج أمراض العيون إلى حديث نبوي شريف شهير ورد في صحيح البخاري ومسلم، يقول: “الكَمْأَةُ مِنَ المَنِّ، وماؤُها شِفاءٌ لِلْعَيْنِ”. هذا الحديث وضع الكمأة في مكانة خاصة ضمن ما يعرف بـ “الطب النبوي”، حيث اعتبرها نوعًا من “المنّ” الذي أنزله الله على بني إسرائيل، وأن ماءها يحمل خصائص علاجية للعين.

وقد تناول كبار العلماء والمؤرخين المسلمين هذا الحديث بالشرح والتحليل. ذكر الإمام ابن القيم الجوزية في كتابه “الطب النبوي” أن ماء الكمأة “يُجلي البصر”، وأن استخدامه يكون بعد عصره وتصفيته وتقطيره في العين. كما أشار أطباء مثل ابن سينا إلى فوائدها في كتاباتهم. هذا الإرث التاريخي العريق هو ما دفع الباحثين المعاصرين إلى التحقق من صحة هذه الأقوال من منظور علمي.

الغوص في العلم: هل يمكن لماء الكمأة أن يعالج العين حقًا؟

في الفيديو، أشار المتحدث إلى أن المياه الزرقاء (الجلوكوما) مسؤولة عن حوالي 7% من حالات العمى في العالم، وهي حقيقة تدعمها منظمة الصحة العالمية. كما ذكر وجود أبحاث مصرية واعدة تهدف إلى تطوير قطرة للعين من الكمأة قد تكون متاحة خلال سنوات قليلة. فماذا يقول العلم الحديث عن هذا الموضوع؟

عند البحث في الأدبيات العلمية، نجد عددًا من الدراسات التي حاولت استكشاف الأساس العلمي وراء هذا العلاج التقليدي، وتركز معظمها على الخصائص المضادة للالتهابات، والمضادة للأكسدة، والمضادة للميكروبات لمستخلصات الكمأة.

1. مكافحة التهابات العين: العديد من أمراض العيون، مثل التهاب القرنية (Corneal inflammation) والتهاب الملتحمة، تنشأ عن استجابات التهابية. تحتوي الكمأة على مركبات نشطة بيولوجيًا قادرة على تثبيط هذه الالتهابات. عند البحث، وجدت دراسة in vitro (مخبرية) نُشرت في مجلة Molecules عام 2018، حيث قام باحثون بتحليل مستخلصات من أنواع مختلفة من الكمأة الصحراوية ووجدوا أنها تحتوي على مركبات الفينول والفلافونويد التي تمتلك قدرة كبيرة على كبح الإنزيمات المسببة للالتهاب. هذا يدعم فكرة أن ماء الكمأة يمكن أن يساعد في تهدئة التهابات سطح العين.

2. خصائص مضادة للأكسدة وحماية أنسجة العين: تعتبر الأكسدة والإجهاد التأكسدي (Oxidative stress) من العوامل الرئيسية في تطور أمراض العيون الخطيرة المرتبطة بالتقدم في السن، مثل الجلوكوما وإعتام عدسة العين (Cataract) والتنكس البقعي. الإجهاد التأكسدي يحدث عندما يكون هناك خلل بين الجذور الحرة (Free radicals) ومضادات الأكسدة في الجسم، مما يؤدي إلى تلف الخلايا. الشبكية (Retina) والجسم الزجاجي (Vitreous body) والقرنية (Cornea) هي أنسجة حساسة للغاية لهذا النوع من التلف. وقد أظهرت العديد من الدراسات أن الكمأة غنية بمضادات الأكسدة القوية. دراسة حيوانية أجريت في جامعة الملك سعود ونشرت في مجلة Food & Function عام 2015، وجدت أن مستخلص الكمأة الصحراوية (Terfezia claveryi) كان له تأثير وقائي كبير ضد تلف شبكية العين الناجم عن الإجهاد التأكسدي في الفئران. ويعتقد الباحثون أن هذا التأثير يعود إلى قدرة المستخلص على تعزيز دفاعات الجسم الطبيعية المضادة للأكسدة.

3. الجلوكوما (المياه الزرقاء): الجلوكوما هو مرض يؤدي إلى تلف العصب البصري، غالبًا بسبب ارتفاع الضغط داخل العين (Intraocular pressure). العلاجات الحالية تركز على خفض هذا الضغط. هل يمكن للكمأة أن تساهم في ذلك؟ الأدلة هنا لا تزال في مراحلها الأولية. لا توجد دراسات بشرية واسعة النطاق تؤكد هذا التأثير بشكل قاطع. ومع ذلك، فإن الخصائص المضادة للالتهابات ومضادات الأكسدة المذكورة سابقًا قد تلعب دورًا غير مباشر في حماية العصب البصري من التلف، حتى لو لم يؤثر المستخلص على الضغط مباشرة. الأبحاث التي أشار إليها المتحدث في مصر، والتي يقودها باحثون مثل الدكتور معتز الشحات، تهدف إلى تطوير قطرة للعين من ماء الكمأة، وتشير النتائج الأولية التي تم عرضها في مؤتمرات علمية إلى نتائج واعدة في نماذج حيوانية، ولكن الطريق لا يزال طويلاً قبل اعتمادها كعلاج بشري قياسي.

4. خصائص مضادة للميكروبات: استُخدم ماء الكمأة تقليديًا لعلاج التراخوما (Trachoma)، وهو مرض بكتيري كان من الأسباب الرئيسية للعمى في الماضي. وقد دعمت الأبحاث الحديثة هذا الاستخدام. دراسة عراقية نشرت في Jordan Journal of Biological Sciences عام 2014 أظهرت أن مستخلص ماء الكمأة كان له نشاط مضاد لعدة أنواع من البكتيريا المسببة لأمراض العين، مما يجعله علاجًا محتملاً للالتهابات البكتيرية التي تصيب سطح العين.

آراء خبراء آخرين ونظرة الطب التقليدي العالمي

يتفق العديد من الخبراء في مجال المنتجات الطبيعية، مثل الدكتور جابر القحطاني، أستاذ علم العقاقير، على القيمة الغذائية العالية للكمأة وفوائدها الصحية العامة نظرًا لغناها بالبروتينات والمعادن ومضادات الأكسدة. ومع ذلك، يؤكد معظم الأطباء والباحثين على ضرورة إجراء المزيد من التجارب السريرية البشرية (Human clinical trials) لتحديد الجرعات الآمنة والفعالة وتأكيد النتائج التي لوحظت في المختبر والحيوانات.

ومن المثير للاهتمام أن استخدام الفطريات الطبية ليس حكرًا على الطب العربي.

  • في الطب الصيني التقليدي (TCM): تُستخدم أنواع من الفطر مثل فطر الريشي (Reishi) والكورديسيبس (Cordyceps) لتعزيز الصحة العامة ودعم وظائف الكبد والكلى، والتي يعتقد الصينيون أنها مرتبطة بصحة العيون.
  • في الأيورفيدا (الطب الهندي التقليدي): تُستخدم بعض الأعشاب والفطريات لخصائصها “المجددة للشباب” (Rasayana)، والتي تهدف إلى مكافحة الشيخوخة والأمراض المرتبطة بها، بما في ذلك ضعف البصر.

هذا التوازي الثقافي يعزز فكرة أن الحضارات القديمة، من خلال الملاحظة والتجربة، توصلت إلى فوائد صحية في الطبيعة تقوم العلوم الحديثة الآن بإعادة اكتشافها وتفسيرها.

خلاصة القول: بين الإرث والعلم

إن الحديث عن الكمأة كعلاج لأمراض العيون ليس مجرد خرافة شعبية، بل هو موضوع متجذر في التراث الديني والتاريخي، وبدأ العلم الحديث في تقديم أدلة أولية واعدة تدعم بعض هذه الادعاءات. الخصائص القوية المضادة للالتهابات والأكسدة والميكروبات الموجودة في الكمأة تجعلها مرشحًا مثيرًا للاهتمام في تطوير علاجات جديدة لأمراض العيون.

ومع ذلك، من الضروري التعامل مع هذه المعلومات بحذر. الادعاء بأن علاجًا نهائيًا سيصبح متاحًا خلال عام أو عامين قد يكون متفائلاً، حيث أن رحلة البحث العلمي من المختبر إلى الصيدلية طويلة ومعقدة. حتى ذلك الحين، تظل الكمأة كنزًا غذائيًا وصحيًا، ورمزًا للأمل في أن الطبيعة لا تزال تخبئ في طياتها أسرارًا قد تغير مستقبل الطب.


تنويه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية. يجب دائمًا استشارة الطبيب المختص قبل تجربة أي علاج.