ماذا لو كانت اللحظات الأخيرة من الحياة ليست نهاية للوعي، بل ذروة له؟ لطالما كانت مرحلة الانتقال من الحياة إلى الموت، المعروفة في ثقافتنا بـ “سكرات الموت”، لغزًا مهيبًا ومخيفًا، وموضوعًا أساسيًا في كل الأديان والفلسفات التي حاولت سبر أغوار ما بعد الحياة. ورغم أن الموت حقيقة حتمية، فإن ما يحدث بالضبط في الدماغ البشري خلال هذه اللحظات الحاسمة ظل طي الكتمان. لكن العلم بدأ أخيرًا في إزاحة الستار عن هذه العملية المعقدة، مقدمًا رؤى قد تعيد تشكيل فهمنا لهذه التجربة الإنسانية العميقة.

في حديث بُث على يوتيوب، تطرق المتحدث إلى الاهتمام العلمي المتزايد بفهم اللحظات الأخيرة من الحياة، وهي ظاهرة طالما تجاهلها المجتمع العلمي واعتبرها خارج نطاق البحث الموضوعي. اليوم، يسعى الأطباء والعلماء جاهدين لفهم هذه التجربة عبر طرق علمية دقيقة، محاولين فك شفرة ما يعرف بـ “تجربة الاقتراب من الموت” (Near-Death Experience - NDE)، والتي يروي فيها أشخاص عادوا من حافة الموت قصصًا مذهلة عن رؤية ضوء في نهاية نفق، أو الشعور بالطفو فوق أجسادهم، أو مشاهدة شريط حياتهم يمر أمام أعينهم بسرعة خاطفة.

عاصفة في الدماغ المحتضر: دراسة ميشيغان

في خطوة مهمة نحو فهم هذه الظواهر، سلط المتحدث الضوء على دراسة علمية حديثة أجراها باحثون في جامعة ميشيغان الأمريكية ونُشرت في مجلة PNAS (Proceedings of the National Academy of Sciences). هدفت هذه الدراسة إلى قياس النشاط الدماغي لدى مرضى في حالة احتضار بدقة غير مسبوقة.

عند البحث عن تفاصيل هذه الدراسة، وجدنا أنها نُشرت بالفعل في مايو 2023 تحت عنوان Surge of neurophysiological coupling and connectivity of gamma oscillations in the dying human brain. قام فريق البحث، بقيادة الدكتورة جيمو بورجيغين، بمراقبة أربعة مرضى في غيبوبة توقف قلبهم عن النبض وكانوا تحت أجهزة التنفس الاصطناعي دون أي أمل في الشفاء. بعد الحصول على موافقة عائلاتهم، قام العلماء بتسجيل نشاط أدمغتهم الكهربائي (EEG) قبل وأثناء وبعد فصلهم عن أجهزة دعم الحياة.

كانت النتائج مذهلة. في اثنتين من الحالات الأربع (امرأة تبلغ من العمر 24 عامًا وأخرى 77 عامًا)، لاحظ الباحثون انفجارًا هائلاً في نشاط موجات جاما (Gamma waves). هذه الموجات هي أسرع ترددات الدماغ وترتبط عادة بالوظائف المعرفية العليا مثل الوعي، الانتباه، الذاكرة، والإدراك المعقد. لم يكن هذا النشاط عشوائيًا، بل كان منظمًا ومتزامنًا عبر مناطق مختلفة من الدماغ.

الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن هذا النشاط تركز في منطقة محددة تُعرف بـ “الموصل الصدغي الجداري” (Temporoparietal junction - TPJ). هذه المنطقة تعتبر “بقعة ساخنة” في الدماغ، حيث أثبتت دراسات سابقة ارتباطها بالأحلام، الهلوسات البصرية، التجارب الروحانية، والشعور بالخروج من الجسد (out-of-body experiences).

وفقًا لمشرفي الدراسة، قد يعني هذا أن الدماغ المحتضر لا “ينطفئ” ببساطة، بل قد يمر بتجربة داخلية غنية ومعقدة. قد يرى المريض شيئًا ما، أو يسمع، أو يعيش تجربة ذاتية عميقة تتطابق مع روايات الناجين من تجارب الاقتراب من الموت. ومع ذلك، يعترف الباحثون بأن دراستهم محدودة، حيث لوحظت هذه الظاهرة في حالتين فقط من أصل أربع، وهو عدد صغير لا يسمح بتعميم النتائج. لكنها تفتح الباب أمام فرضية مثيرة: هل يمكن أن تكون تجارب الاقتراب من الموت نتاج هذه العاصفة العصبية الأخيرة في الدماغ؟

تسونامي الدماغ: دراسة برلين وتفسير “موجة الموت”

قبل دراسة ميشيغان، كانت هناك دراسات أخرى حاولت فهم ما يحدث في الدماغ عند الموت. أشار المتحدث إلى دراسة فارقة أجريت في ألمانيا عام 2018، والتي قدمت تفاصيل أكثر إبهارًا عن المراحل النهائية لموت الخلايا العصبية.

بالبحث، وجدنا أن هذه الدراسة نُشرت في مجلة Annals of Neurology تحت عنوان Terminal spreading depolarization and electrical silence in death of human cerebral cortex، وقادها فريق من علماء الأعصاب في برلين. شملت الدراسة تسعة مرضى يعانون من إصابات دماغية حادة لا يمكن علاجها. وباستخدام تقنيات متقدمة، تمكنوا من مراقبة النشاط الكهربائي للدماغ لحظة بلحظة خلال عملية الموت.

كشفت الدراسة عن عملية مروعة ومنظمة تحدث في الدماغ بعد توقف تدفق الدم والأكسجين:

  1. الهدوء الذي يسبق العاصفة: عندما يتوقف القلب، تبدأ الخلايا العصبية في الدماغ بالشعور بنقص الأكسجين الحاد. كرد فعل للبقاء على قيد الحياة، تدخل في حالة من “الصمت الكهربائي”، حيث تقلل نشاطها بشكل كبير للحفاظ على ما تبقى من مخزون الطاقة. تستمر هذه المرحلة لحوالي ثلاث دقائق، وخلالها تظل الخلايا العصبية سليمة وقابلة للإنقاذ إذا عاد تدفق الأكسجين.

  2. موجة الموت (Spreading Depolarization): بعد نفاد مخزون الطاقة، تصل الخلايا إلى نقطة اللاعودة. وهنا، يحدث انفجار مفاجئ وهائل في النشاط الكهربائي. تبدأ الخلايا العصبية المجهدة في إطلاق كل طاقتها دفعة واحدة، مطلقةً كميات هائلة من المواد الكيميائية السامة في الفضاء بين الخلوي، وأبرزها البوتاسيوم وحمض الغلوتامات (Glutamate)، وهو ناقل عصبي مثير.

  3. العدوى التسلسلية: هذا الإطلاق الهائل للمواد السامة يخلق تفاعلًا تسلسليًا يشبه “تسونامي” يجتاح الدماغ. تنتشر هذه الموجة المدمرة، المعروفة علميًا بـ “موجة انخفاض الجهد المنتشرة” (Spreading Depolarization)، من منطقة إلى أخرى في الدماغ، مسببةً موتًا جماعيًا للخلايا العصبية. تستمر هذه الموجة لعدة دقائق، وفي نهايتها، يكون الدماغ قد مات بشكل لا رجعة فيه.

هذه الدراسة أثبتت أن الموت الدماغي ليس حدثًا فوريًا، بل عملية تستغرق دقائق وتتضمن نشاطًا عصبيًا كثيفًا ومفاجئًا. يطرح الباحثون فرضية أن هذه “الموجة العصبية” قد تكون التفسير البيولوجي للصور والأحاسيس التي يصفها الناجون من الموت. فهم يقارنون ما يحدث في الدماغ المحتضر بما يحدث لدى بعض مرضى الصداع النصفي الشديد (Migraine with aura)، الذين يصفون هلوسات بصرية مثل رؤية بقع مضيئة أو خطوط متعرجة، والتي تنتج عن موجة مشابهة (وإن كانت أقل تدميرًا) من النشاط العصبي غير الطبيعي.

آراء خبراء آخرين ومنظور الثقافات الأخرى

هذه الأبحاث تتوافق مع آراء خبراء بارزين في هذا المجال، مثل الدكتور سام بارنيا (Sam Parnia)، مدير أبحاث العناية المركزة والإنعاش في كلية الطب بجامعة نيويورك، والذي يقود دراسة AWARE (AWAreness during REsuscitation). يؤكد الدكتور بارنيا أن الوعي قد يستمر لفترة بعد توقف القلب، وأن التجارب التي يرويها الناس ليست مجرد هلوسات ناجمة عن نقص الأكسجين، بل قد تكون لمحات حقيقية من تجربة الموت.

من المثير للاهتمام أن هذه الاكتشافات العلمية الحديثة تجد أصداءً في التقاليد الروحانية القديمة. على سبيل المثال، في الديانة البوذية التبتية، يصف كتاب الموتى التبتي (Bardo Thödol) مراحل “الباردو” أو الحالة الوسيطة بين الموت والولادة الجديدة. تتضمن هذه المراحل تجارب حسية مكثفة، ورؤية أضواء ساطعة، ومواجهة صور ذهنية تعكس أعمال الشخص في حياته. يرى بعض الباحثين تشابهًا لافتًا بين هذه الأوصاف القديمة وبين ما تكشفه دراسات الدماغ الحديثة، مما يشير إلى أن البشر عبر الثقافات والعصور ربما كانوا يصفون نفس الظاهرة العصبية الأساسية بلغات مختلفة.

خاتمة: بين العلم والروح

في النهاية، هل الانتقال من الحياة إلى الموت مجرد هلوسات وأوهام ينتجها دماغ يحتضر، أم هي علامات حقيقية للولوج إلى عالم آخر؟ العلم يخطو خطوات واسعة في رسم خريطة ما يحدث في الدماغ خلال هذه اللحظات، ويقدم تفسيرات بيولوجية محتملة لتجارب الاقتراب من الموت. الدراسات الحديثة تشير إلى أن الدماغ لا يستسلم بهدوء، بل يخوض معركة أخيرة تتجلى في عاصفة من النشاط الكهربائي قد تكون مسؤولة عن التجارب الذاتية العميقة التي يرويها الناجون.

لكن يبقى السؤال الجوهري قائمًا: هل هذا النشاط الدماغي هو سبب التجربة أم مجرد ارتباط بها؟ لا أحد عاد من الموت ليخبرنا بالخبر اليقين. وهكذا، تظل سكرات الموت، والموت نفسه، السؤال الأكبر الذي ما زال يحيرنا في القرن الحادي والعشرين، تمامًا كما حير أسلافنا عبر آلاف السنين، تاركًا الباب مفتوحًا بين ما يمكن للعلم قياسه وما يبقى في عالم الغيب والإيمان.


تنويه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية.