هل يمكن أن يكون الموت ليس نهاية، بل مجرد تحول في حالة الوعي؟ ماذا لو كانت الحياة التي نعيشها، بكل تفاصيلها وأشكالها، ليست سوى تجربة مؤقتة لوعي كوني شامل، وأن إحساسنا بالـ “أنا” المنفصلة هو مجرد وهم متقن؟ هذه الأسئلة العميقة التي حيرت الفلاسفة والمتصوفة والباحثين الروحيين عبر العصور، طُرحت مجددًا في مقطع فيديو حديث على يوتيوب، حيث قدم أحد المتحدثين رؤية فلسفية جذرية حول طبيعة الوجود، مستلهمًا إجابته من تجربة شخصية لسائلة فقدت والدها مؤخرًا.
في نقاش مؤثر، انطلقت المحادثة من سؤال حول اللحظة الدقيقة التي ينتقل فيها الوعي المحدود (Localized Consciousness) للفرد ليعود إلى الوعي الكوني (Universal Consciousness). استند السؤال إلى حادثة وفاة والد السائلة، الذي توقف دماغه عن العمل فورًا بعد سقوطه، لكن قلبه استمر في النبض لنصف ساعة. أثارت هذه الحادثة تساؤلات وجودية: متى يبدأ الوعي المحدود في التكون داخل الجسد؟ ومتى يغادره بالضبط؟ وما هي طبيعة تجارب الخروج من الجسد (Out-of-Body Experiences) التي يشعر فيها الشخص بالانفصال التام عن هويته البشرية وعن مفاهيم مثل اللغة والزمان والمكان؟
الوعي يرتدي “خوذة الواقع الافتراضي”
للإجابة على هذه التساؤلات المعقدة، قدم المتحدث تشبيهًا مبتكرًا وقويًا. في رؤيته، الوعي الكوني هو الحقيقة المطلقة والوحيدة، وهو وجود أزلي لا يخضع لقيود الزمان أو المكان. هذا الوعي، في حالته النقية، لا يمتلك شكلًا أو بُعدًا. لكن لكي يختبر الوجود المادي، يقوم هذا الوعي بارتداء ما أسماه “خوذة واقع افتراضي” (A Virtual Reality Headset). هذه الخوذة ليست سوى العقل البشري، المكون من أداتين أساسيتين: التفكير والإدراك الحسي.
بمجرد أن يضع الوعي الكوني هذه الخوذة، تحدث ثلاثة أمور بشكل متزامن:
- يخلق العالم: يتخذ نشاط الوعي شكل العالم المادي الذي نراه. فالعالم ليس “مادة” صلبة منفصلة، بل هو مظهر من مظاهر نشاط الوعي نفسه.
- يتمركز في جسد: ينكمش جزء من هذا الوعي ويتخذ شكل ذات فردية أو “أنا” منفصلة داخل هذا العالم الذي خلقه.
- ينظر إلى نفسه كـ “آخر”: من منظور هذه الذات المتمركزة، يبدو باقي نشاط الوعي (الذي هو في الحقيقة جزء من ذاته) وكأنه “عالم خارجي” منفصل وموضوعي.
وفقًا لهذا المنظور، فإن الجسد المادي ليس كيانًا فيزيائيًا مستقلاً، بل هو المظهر الذي يتخذه هذا التمركز المحدد للوعي من وجهة نظرنا. لحظة “الحمل” أو تكون الجنين في الرحم هي اللحظة التي يرتدي فيها الوعي الكوني خوذة العقل، فيتقلص ظاهريًا ليصبح ذاتًا فردية، ويبدأ في إدراك بقية وجوده كعالم خارجي.
عند البحث عن أدلة علمية تدعم هذه الفكرة، نجد أن العلم المادي الحالي لا يمتلك الأدوات اللازمة لإثبات أو نفي طبيعة الوعي بهذه الطريقة. ومع ذلك، تتزايد الأصوات في مجالات مثل فيزياء الكم والفلسفة العقلية التي تتحدى النظرة المادية الصرفة. على سبيل المثال، يشير بعض العلماء مثل دونالد هوفمان، أستاذ العلوم المعرفية، في “نظريته الواجهية للإدراك” (Interface Theory of Perception)، إلى أن ما ندركه ليس هو الواقع الحقيقي، بل مجرد واجهة مبسطة، مثل أيقونات سطح المكتب على الكمبيوتر، مصممة لمساعدتنا على البقاء. هذا يتناغم مع فكرة أن إدراكنا للعالم ليس نافذة على الحقيقة المطلقة.
تشبيه الحلم: هل نحن شخصيات في حلم كوني؟
لتبسيط هذه الفكرة المعقدة، استخدم المتحدث تشبيهًا آخر أكثر قربًا لتجربتنا اليومية: الحلم. عندما نحلم ليلًا، يقوم عقلنا بفعل الشيء نفسه تمامًا. يعزل جزءًا من نفسه ليصبح “شخصية الحلم” (الذات الحالمة)، بينما يتحول باقي نشاط العقل إلى “عالم الحلم” بكل تفاصيله وشخصياته وأحداثه.
من منظور شخصية الحلم، هي تمتلك جسدًا، وتاريخًا، وتعيش في عالم يبدو حقيقيًا ومنفصلاً عنها. تتساءل شخصية الحلم: “متى وُلدت؟” والإجابة هي أنها لم تُولد أبدًا بالمعنى الحرفي. لقد ظهرت فقط في اللحظة التي قرر فيها عقل الحالم أن يتمركز في هذا الشكل. وعندما “تموت” شخصية الحلم، هي لا تموت حقًا؛ كل ما يحدث هو أن عقل الحالم يتوقف عن التمركز في هذا الشكل المحدد ويعود إلى حالته الكلية.
بتطبيق هذا التشبيه على الواقع، فإن “ولادة” الإنسان ليست سوى ظهور مؤقت لتمركز الوعي، و”موته” ليس سوى توقف هذا التمركز. الكينونة الحقيقية (The Being) التي كان عليها والد السائلة، أو أي شخص آخر، لم تدخل الوجود ولم تخرج منه أبدًا. إنها الكينونة الأزلية التي هي الآن كينونة كل شيء. ما ظهر واختفى كان مجرد “تمركز” مؤقت، تجربة محدودة ضمن محيط الوعي اللامتناهي.
أصداء الفكرة في الفلسفات والروحانيات العالمية
هذه الرؤية، رغم حداثة مصطلحاتها مثل “الواقع الافتراضي”، ليست جديدة على الإطلاق، بل هي صدى لأعمق الأفكار في العديد من التقاليد الفلسفية والروحانية الكبرى حول العالم.
1. وحدة الوجود في الفلسفة الإسلامية (الصوفية):
تعتبر فكرة “وحدة الوجود”، التي بلورها بشكل عميق الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، من أبرز المقاربات لهذه الرؤية. يرى ابن عربي أن الوجود الحقيقي واحد وهو وجود الحق (الله)، وأن كل ما نراه في الكون (المخلوقات أو “السوى”) ليس سوى تجليات ومظاهر لهذا الوجود الواحد. الأعيان الثابتة (صور الأشياء في علم الله) تظهر في العالم الخارجي ككائنات منفصلة، لكنها في حقيقتها لم تنفصل قط عن مصدرها. يقول جلال الدين الرومي، أحد أبرز شعراء الصوفية: “متْ قبل أن تموت”، في إشارة إلى موت الأنا الوهمية للعودة إلى حقيقة الذات الكلية.
2. أدفايتا فيدانتا في الهندوسية:
تُعد فلسفة “أدفايتا فيدانتا” (Advaita Vedanta)، التي تعني “اللاثنائية”، من أقدم وأوضح التعابير عن هذه الفكرة. تقوم هذه الفلسفة على أن “أتمان” (Atman)، أي الوعي الفردي أو الذات الداخلية، هو نفسه “براهمان” (Brahman)، أي الوعي الكوني أو الحقيقة المطلقة. كل إحساس بالانفصال هو نتيجة “مايا” (Maya)، وهي قوة الوهم الكوني التي تجعل الواحد يظهر ككثرة. الهدف الروحي الأسمى هو تحقيق “موكشا” (Moksha) أو التحرر، وهو إدراك هذه الوحدة الجوهرية بين أتمان وبراهمان. يمكن العثور على دراسات أكاديمية حول هذا المفهوم في مصادر مثل موسوعة ستانفورد للفلسفة.
3. مفهوم “اللاذات” (Anatta) في البوذية:
تقدم البوذية منظورًا مشابهًا من زاوية مختلفة. أحد تعاليمها الأساسية هو “أناتا” (Anatta) أو “اللاذات”، والذي ينفي وجود “أنا” ثابتة ودائمة ومستقلة. ما نعتبره “ذاتنا” هو في الحقيقة مجرد تجمع مؤقت لخمسة عناصر (الخمسة كانداس): الشكل، الإحساس، الإدراك، التكوينات العقلية، والوعي. هذه العناصر في حالة تغير وتدفق مستمر، ولا يوجد “شبح في الآلة” أو ذات جوهرية تقف خلفها. التشبث بفكرة الذات المنفصلة هو مصدر المعاناة (دوكا)، والتحرر (نيرفانا) يأتي من رؤية هذه الحقيقة.
4. المثالية في الفلسفة الغربية:
في الغرب أيضًا، ظهرت تيارات فلسفية تتحدى الواقع المادي. الفيلسوف الأيرلندي جورج بيركلي، على سبيل المثال، طرح مقولته الشهيرة: “أن تكون هو أن تُدرَك” (To be is to be perceived)، معتبرًا أن الأشياء لا وجود لها إلا كأفكار في عقل مُدرِك (إما عقل بشري أو عقل الله). وفي القرن السابع عشر، رأى الفيلسوف باروخ سبينوزا أن هناك “جوهرًا” واحدًا فقط في الكون، وهو الله أو الطبيعة، وكل شيء آخر ليس سوى “حال” أو تعديل (Mode) لهذا الجوهر الواحد.
تجربة الخروج من الجسد: لمحة من الحقيقة؟
في هذا السياق، يمكن فهم تجربة الخروج من الجسد التي وصفتها السائلة بشكل مختلف. فبدلاً من كونها مجرد هلوسة دماغية، يمكن النظر إليها كـ “خلع” مؤقت لـ “خوذة الواقع الافتراضي”. عندما تلاشت لديها مفاهيم اللغة، والشكل البشري، وحتى كوكب الأرض، كانت تختبر حالة الوعي في صورته الأنقى والأكثر اتساعًا، قبل أن “يعود” ليرتدي خوذة العقل والإدراك المحدود مرة أخرى. شعورها بأنها “عادت بكل حكمة عرفت على الإطلاق” يتوافق مع فكرة أن الوعي الكوني هو مصدر كل المعرفة والوجود.
يتحدث العديد من المعلمين الروحيين المعاصرين، مثل إيكهارت توله، عن أهمية تجاوز التفكير المفرط للوصول إلى حالة من “الحضور” أو الوعي النقي، وهي لمحة من تلك الحالة التي وصفتها السائلة.
خاتمة: نظرة جديدة للوجود
إن المنظور الذي يطرحه الفيديو يقدم عزاءً فلسفيًا عميقًا لمن يواجهون الفقد. فكرة أن أحباءنا لم يختفوا، بل عادوا ببساطة من حالة التمركز المحدود إلى حالتهم الأصلية كوعي كوني شامل، يمكن أن تغير علاقتنا بالموت من الخوف إلى الفهم. إنها دعوة للنظر إلى الحياة ليس كسباق نحو نهاية حتمية، بل كرقصة كونية، تجربة مؤقتة للوعي اللامتناهي وهو يكتشف نفسه في أشكال لا حصر لها. ورغم أن هذه الأفكار تظل في نطاق الفلسفة والتأمل ولا يمكن إثباتها علميًا في الوقت الحالي، إلا أنها تحمل في طياتها حكمة خالدة تناقلتها البشرية عبر آلاف السنين، وتقدم إجابات محتملة لأعمق أسئلة الوجود.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تعليمية وتثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية.