هل يمكن لسؤال واحد أن يغير مجرى التاريخ؟ قبل آلاف السنين، في زمن كانت فيه الآلهة والأساطير تفسر كل ظاهرة، من البرق إلى المد والجزر، ظهر رجل قرر أن ينظر إلى العالم بعيون مختلفة. في مدينة ميليتوس الساحلية، حيث تلتقي التجارة بالأفكار، بدأ طالس رحلة الفكر الإنساني نحو العقل والمنطق، ليؤسس بذلك ما نعرفه اليوم بالفلسفة والعلم.
في مقال مرئي حديث على يوتيوب، تم استعراض قصة طالس، ليس كنبي أو ساحر، بل كأول مفكر تجرأ على استبدال الخرافة بالملاحظة، والمعجزة بالقانون الطبيعي. لقد كانت حياته وأفكاره بمثابة الفجر الذي بدأت معه رحلة الإنسان لفهم الكون بعقله، وهي رحلة لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
من الأسطورة إلى العقل: ولادة الفكر الحر
في القرن السادس قبل الميلاد، كانت مدينة ميليتوس (في تركيا الحالية) مركزًا تجاريًا عالميًا، تستقبل السفن المحملة بالبضائع والأفكار من مصر وبابل والهند. في هذا المناخ المنفتح، نشأ طالس، الذي لم يكتفِ بقبول التفسيرات الأسطورية السائدة. بدلاً من الخوف من غضب الآلهة، كان يقف على الميناء متأملاً البحر، باحثًا عن نظام خفي خلف الفوضى الظاهرة.
كانت هذه هي نقطة التحول: الانتقال من التفكير الأسطوري (Mythos) إلى التفكير العقلاني (Logos). لقد آمن طالس بأن الكون ليس غامضًا ولا تحكمه الأهواء الإلهية، بل هو نظام قابل للفهم من خلال الملاحظة والقياس والتأمل. هذه الفكرة، التي تبدو بسيطة اليوم، كانت ثورة فكرية هائلة، حيث أعلنت أن العقل البشري هو الأداة الأسمى لفهم الحقيقة.
الماء هو الأصل: البحث عن الجوهر الأول
أشهر أفكار طالس، والتي وصلتنا عبر كتابات فلاسفة لاحقين مثل أرسطو، هي أن “الماء هو أصل كل شيء”. لم يكن يقصد بذلك ماء الشرب العادي، بل كان يشير إلى جوهر أو مبدأ أول (يُعرف فلسفيًا باسم Arche) تتكون منه جميع الأشياء وتعود إليه.
عندما بحثنا عن أدلة تدعم هذا الادعاء، وجدنا أن المصدر الرئيسي هو أرسطو في كتابه “الميتافيزيقا”. يقترح أرسطو أن طالس ربما وصل إلى هذه النتيجة من خلال ملاحظاته للطبيعة:
- الحياة مرتبطة بالرطوبة: لاحظ أن غذاء كل الكائنات رطب، وأن البذور التي تنطلق منها الحياة رطبة.
- التحول المستمر للماء: رأى الماء يتحول من سائل إلى بخار (يصعد للسماء) ثم يعود مطرًا، مما يجعله رمزًا للدورة الدائمة للحياة والتغير.
هذه الفكرة لم تكن فريدة تمامًا في العالم القديم. ففي الحضارة المصرية القديمة، كان يُعتقد أن الكون نشأ من محيط مائي أزلي يُدعى “نون”. وفي الحضارة البابلية، يبدأ ملحمة الخلق “إينوما إليش” بامتزاج المياه العذبة (أبسو) والمياه المالحة (تيامات). لكن ما ميّز طالس هو أنه قدم تفسيرًا طبيعيًا بحتًا، خاليًا من الآلهة، مما جعله أول فيلسوف طبيعي.
الأرض تطفو على الماء: أول نموذج كوني علمي
لم تتوقف محاولات طالس عند تحديد أصل المادة، بل امتدت إلى شكل الكون. يُنسب إليه القول بأن “الأرض تطفو على الماء مثل قطعة خشب”. قد تبدو هذه الفكرة ساذجة اليوم، لكنها كانت محاولة رائدة لتفسير استقرار الأرض بوسائل طبيعية، بدلاً من الأساطير التي كانت تقول إنها محمولة على أكتاف أطلس أو أعمدة خفية.
كانت هذه الفكرة مبنية على الملاحظة أيضًا؛ فرؤية الماء يتسرب من باطن الأرض عند الحفر قد تكون أوحت له بأن الماء هو الأساس الذي يحمل اليابسة. الأهم من صحة الفكرة هو المنهج: محاولة بناء نموذج للكون يعتمد على عناصر من الطبيعة نفسها.
من التنبؤ بالكسوف إلى قياس الأهرامات: ولادة العلم
لم يكن طالس فيلسوفًا تأمليًا فقط، بل كان عالمًا تطبيقيًا. وتُعد قصة تنبؤه بكسوف الشمس عام 585 ق.م من أشهر إنجازاته. يروي المؤرخ هيرودوت أن هذا الكسوف حدث أثناء معركة بين الليديين والميديين، مما أدى إلى توقف القتال فورًا وعقد السلام.
يثير هذا التنبؤ جدلاً بين الباحثين المعاصرين. فهل كان لدى طالس معرفة فلكية دقيقة؟ تشير دراسات، مثل تلك التي تناولت “معركة الكسوف”، إلى أنه من المستبعد أن يكون قد تنبأ بالكسوف بالدقة التي نعرفها اليوم. النظرية الأكثر قبولًا هي أنه استفاد من السجلات الفلكية البابلية، وتحديدًا معرفتهم بدورة الساروس (Saros cycle)، وهي دورة تبلغ حوالي 18 عامًا تتكرر فيها الكسوفات بشكل مشابه، مما سمح له بتوقع حدوث الكسوف في تلك السنة دون تحديد اليوم أو الموقع الدقيق. ومع ذلك، تظل هذه الحادثة علامة فارقة، حيث أظهرت أن حركة الأجرام السماوية تتبع قوانين يمكن فهمها والتنبؤ بها.
إنجاز آخر يُنسب إليه هو قياس ارتفاع أهرامات مصر باستخدام ظلها. وفقًا لما نقله ديوجين اللايرتي، انتظر طالس حتى أصبح طول ظله مساويًا لطوله، وفي تلك اللحظة، قاس طول ظل الهرم، فكان ذلك هو ارتفاعه. هذه الطريقة البسيطة والعبقرية هي تطبيق مباشر لمبادئ الهندسة، وتحديدًا نظرية المثلثات المتشابهة. لقد أثبت طالس أن العقل، باستخدام أدوات بسيطة، يمكنه قياس ما لا يمكن الوصول إليه.
“كل شيء مملوء بالآلهة”: رؤية للطبيعة الحية
تُنسب إلى طالس عبارة غامضة تقول: “كل شيء مملوء بالآلهة”. قد تبدو هذه العبارة وكأنها عودة إلى الأسطورة، لكن الفلاسفة يفسرونها بشكل مختلف. لم يكن طالس يقصد آلهة الأوليمب، بل كان يشير إلى أن المادة ليست جامدة أو ميتة، بل تمتلك قوة داخلية أو مبدأ للحركة والحياة (مفهوم يُعرف باسم Hylozoism أو المذهب الحيوي).
عندما قال إن المغناطيس له “روح” لأنه يحرك الحديد، كان يعبر عن فكرة أن الحركة لا تأتي بالضرورة من مصدر خارجي (إلهي)، بل هي خاصية كامنة في المادة نفسها. هذه الرؤية ترى الكون ككائن حي واحد، كل أجزائه مترابطة وتنبض بطاقة داخلية، وهي فكرة تجد أصداءها في فلسفات شرقية مثل الطاوية التي تتحدث عن “الطاقة الحيوية” (تشي) التي تسري في كل شيء.
إرث طالس: الشك، السؤال، والبحث الدائم عن الحقيقة
ربما يكون أعظم ما تركه طالس ليس إجاباته، بل منهجه. لقد علم تلاميذه، ومن بعدهم البشرية جمعاء، أن الفلسفة تبدأ من الدهشة، وتستمر بالسؤال، وتنضج بالشك. كان يؤمن بأن الاعتراف بالخطأ ليس عيبًا، بل هو خطوة ضرورية نحو الحقيقة. عبارته “لست متأكدًا، لكني أبحث” هي جوهر الفكر الفلسفي والعلمي.
لقد أسس طالس المدرسة المليطية، التي خرج منها فلاسفة مثل أنكسماندر وأنكسيمينس، الذين واصلوا البحث عن المبدأ الأول للكون، لكن بمنهج طالس نفسه القائم على العقل والملاحظة. من هذه البذرة الصغيرة، نمت شجرة الفلسفة الغربية التي أثمرت عمالقة مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو.
في النهاية، كانت رحلة طالس من البحر وإليه. بدأ بتأمل الماء، وانتهى بفهم أن الكون كله نظام متناغم يمكن للعقل أن يصغي إلى موسيقاه. لقد علمنا أن الحقيقة لا تُكتشف في المعابد، بل في العقل الهادئ الذي يراقب، يقيس، ويتجرأ على أن يسأل.
تنبيه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تعليمية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية.