ماذا لو كانت هويتك التي تدافع عنها، وتفخر بها، وتعيش من أجلها، ليست سوى فكرة مجردة، مجرد اتفاق اجتماعي لا يختلف في جوهره عن خطوط الطول ودوائر العرض أو وحدات قياس الزمن؟ في مقطع فيديو عميق، يطرح الفيلسوف البريطاني آلان واتس (Alan Watts) رؤية جذرية تفكك أحد أكثر المفاهيم رسوخًا في النفس البشرية: “الأنا” (The Ego). يجادل واتس بأن هذا الكيان الذي نعتبره “أنا” ليس حقيقتنا الجوهرية، بل هو بناء ذهني، صورة كاريكاتورية عن أنفسنا، وهذا الخطأ في التعريف هو مصدر ارتباكنا وقلقنا المزمن. هذا المقال يغوص في تحليل واتس، مدعومًا بأدلة من علم النفس الحديث، وعلوم الأعصاب، وتقاطعاته مع حكم الفلسفات الشرقية القديمة.
الأنا: اصطلاح اجتماعي أم حقيقة وجودية؟
يبدأ واتس تحليله من مفارقة نواجهها منذ الطفولة. يقال لنا: “كن عفويًا”، “تصرف على طبيعتك”، ولكن هذا الطلب يأتي كأمر من سلطة خارجية (الوالدين، المجتمع). “نحن والداك وكبارك ومن هم أفضل منك نأمرك أن تفعل ما يرضينا، ولكن فقط إذا فعلت ذلك بعفوية”. هذه الرسالة المزدوجة تخلق ارتباكًا داخليًا عميقًا، لأنها تطلب منا أداء العفوية، وهو ما يناقض طبيعتها. هذا العبء، كما يوضح واتس، هو التربة التي تنبت فيها بذرة ما نسميه “الأنا”.
يجادل واتس بأن “الأنا” ليست الكائن الحي بحد ذاته. الكائن الحي الحقيقي، من وجهة نظره، هو نظام متكامل غير منفصل عن بيئته والكون. أما “الأنا” فهي شيء آخر تمامًا: “اصطلاح اجتماعي”. لها نفس درجة الوجود التي للساعات أو البوصات أو الأرطال. إنها أداة مجردة للتواصل والنقاش، وسيلة لتحديد الذات في مقابل الآخرين.
المشكلة الكبرى، كما يرى، هي أننا “نتعامل معها كما لو كانت عضوًا جسديًا حقيقيًا”. ننسى أنها مجرد فكرة، صورة ذهنية عن أنفسنا، ونبدأ في التماهي معها بالكامل. وهنا يكمن الخطأ الفلسفي الجسيم. فصورة الشجرة ليست الشجرة، وكلمة “ماء” لا تروي العطش، وصورتنا عن أنفسنا ليست نحن.
تتفق هذه الرؤية مع مفاهيم في علم النفس الاجتماعي. فكرة “الذات المرآوية” (Looking-glass self) التي قدمها عالم الاجتماع تشارلز هورتون كولي (Charles Horton Cooley) في أوائل القرن العشرين، تقترح أن إحساسنا بالذات لا ينبع من الداخل فقط، بل يتشكل من خلال تصورنا لكيفية رؤية الآخرين لنا. نحن نتخيل مظهرنا في عيون الآخرين، ونتخيل حكمهم علينا، ثم نشعر بشيء (كبرياء أو خجل) نتيجة لذلك. هذا يؤكد فكرة واتس بأن “الأنا” هي بناء اجتماعي إلى حد كبير.
صورة الذات: الكاريكاتور غير المكتمل
يؤكد واتس أن هذه الصورة الذهنية التي نكونها عن أنفسنا (“الأنا”) هي بالضرورة غير دقيقة وغير مكتملة. يستشهد بالشاعر الاسكتلندي روبرت بيرنز: “يا ليتنا نُمنح تلك الهدية التي تجعلنا نرى أنفسنا كما يرانا الآخرون”. صورتي عن نفسي تختلف جذريًا عن صورتك عني، والأهم من ذلك، أن هذه الصورة لا تحتوي على أي معلومات حقيقية عن العمليات الحيوية المعقدة التي تشكل وجودي: كيف يعمل جهازي العصبي، أو دورتي الدموية، أو عمليات الأيض (الاستقلاب)، أو ترابطي الدقيق مع باقي الكائنات والكون.
إذًا، ما نتصوره عن أنفسنا هو مجرد “كاريكاتور”، نسخة مبسطة ومختزلة. والمجتمع يعزز هذا الوهم بحثنا على أن “نكون شخصيات متسقة” و”نجد هويتنا”. لكن البحث عن هوية ثابتة مبنية على هذه الصورة السطحية هو، في نظر واتس، “بحث مضلل”.
تدعم علوم الأعصاب الحديثة هذه الفكرة بشكل غير مباشر. شبكة الوضع الافتراضي (Default Mode Network - DMN) هي مجموعة من مناطق الدماغ التي تنشط عندما يكون العقل في حالة راحة ظاهريًا، منغمسًا في التفكير الذاتي، مثل أحلام اليقظة، وتذكر الماضي، والتخطيط للمستقبل. تشير الأبحاث، مثل مراجعة نُشرت في مجلة Frontiers in Human Neuroscience عام 2013، إلى أن هذه الشبكة هي المعادل العصبي لكثير من العمليات التي ننسبها إلى “الأنا”. النشاط المفرط في هذه الشبكة يرتبط بالاجترار الفكري والقلق والاكتئاب، مما يوحي بأن التماهي المفرط مع “قصة الذات” له تكلفة عصبية.
الجذر الجسدي للأنا: التوتر العضلي المزمن
لعل الإضافة الأكثر تميزًا في تحليل واتس هي ربطه بين الإحساس المجرد بـ “الأنا” وإحساس جسدي ملموس. يتساءل: ما هو هذا الشعور الداخلي الذي نشير إليه عندما نقول “أنا”؟ إنه ليس مجرد فكرة، بل إحساس بوجود مركز حساس داخل الجلد.
بعد تأمل، يكشف واتس عن اكتشافه: “إنه توتر عضلي مزمن تعلمناه منذ الطفولة”. يعود بنا إلى المفارقة الأولى: عندما يُطلب منا “الانتباه جيدًا”، نبدأ بشد عضلات أعيننا وآذاننا وفكنا، كأننا نحاول استخدام العضلات لتشغيل الأعصاب، وهو أمر مستحيل بل ويعطل وظيفتها. عندما نحاول “السيطرة على مشاعرنا”، نحبس أنفاسنا ونشد عضلات بطوننا. نحن نمسك أنفسنا حرفيًا.
هذا الفعل المتكرر يخلق حالة من الشد الداخلي الدائم، حتى أثناء الاسترخاء. هذا التوتر المزمن، الذي يسميه واتس مستخدمًا مصطلحًا من اللغة السنسكريتية sankochā (سانكوتشا)، والذي يعني “الانكماش” أو “التقلص”، هو الترجمة الجسدية للصورة النفسية التي نحملها عن أنفسنا. الإحساس بالشد هو الإحساس بـ “الأنا”. وهكذا، تصبح الأنا “زواجًا بين وهم وعجز”.
هذه الفكرة هي حجر الزاوية في مجال علم النفس الجسدي (Somatic Psychology). لقد سبقه إليها مفكرون مثل فيلهلم رايش (Wilhelm Reich)، تلميذ فرويد، الذي طور مفهوم “الدرع الشخصي” (Character Armor)، حيث رأى أن الصدمات النفسية والدفاعات العقلية تتجمد في الجسم على شكل أنماط من التوتر العضلي المزمن. كما طور ألكسندر لوين (Alexander Lowen) العلاج بالتحليل الحيوي (Bioenergetics)، الذي يركز على تحرير هذه التوترات الجسدية للوصول إلى الشفاء النفسي. تتفق أفكار واتس تمامًا مع هذه المدارس التي ترى أن العقل والجسد ليسا منفصلين، وأن قصصنا النفسية مكتوبة في أنسجة أجسادنا.
مفارقة التحرر ورقصة الوعي
إذا كانت “الأنا” وهمًا، فكيف نتخلص منها؟ هنا تظهر مفارقة أخرى. السؤال “كيف فعلت ذلك؟” هو سؤال مغلوط، لأن “من يسأل هو الأنا، هو الوهم ذاته”. محاولة الأنا القضاء على نفسها هي مثل محاولة الثعبان أن يأكل ذيله؛ إنها حركة دائرية عقيمة تعزز الوهم بدلاً من حله.
الحل الذي يقترحه واتس لا يكمن في الصراع، بل في الملاحظة. “عندما تبدأ بملاحظة هذا الوهم دون خوف أو محاولة تغييره، تبدأ في التحرر منه”. هذا النهج ينسجم بشكل مباشر مع الممارسات التأملية في الفلسفات الشرقية، وتحديدًا البوذية والهندوسية.
- في البوذية: مفهوم “أناتا” (Anatta) أو “اللا-ذات” هو أحد الأركان الأساسية. التعليمات لا تدعو إلى “قتل الأنا”، بل إلى رؤية طبيعتها الزائلة والمترابطة وغير الجوهرية من خلال التأمل والملاحظة الواعية (Vipassanā).
- في الهندوسية (أدفايتا فيدانتا): يُنظر إلى الذات الفردية (جيفا) على أنها انعكاس للوعي الكوني (براهمان)، وأن الشعور بالانفصال هو وهم (مايا). التحرر (موكشا) يأتي من خلال تحقيق هذه الوحدة، وليس من خلال محاربة الذات الفردية.
يدعم العلم الحديث فعالية هذا النهج. العديد من الدراسات، بما في ذلك تحليل تلوي (meta-analysis) نُشر في Social Cognitive and Affective Neuroscience عام 2015، أظهرت أن ممارسة التأمل الذهني (Mindfulness Meditation) تؤدي إلى انخفاض النشاط في شبكة الوضع الافتراضي (DMN)، “شبكة الأنا” في الدماغ. هذا يشير إلى أن التدريب على الملاحظة غير الحكمية للأفكار والمشاعر يمكن أن يقلل من التماهي مع قصة الذات، مما يوفر أساسًا عصبيًا للشعور بالتحرر الذي يصفه واتس.
يتفق خبراء آخرون في مجال الوعي، مثل إيكهارت تول (Eckhart Tolle)، مع هذه الرؤية. يصف تول “الأنا” بأنها “الذات الوهمية” التي تتغذى على الماضي والمستقبل، والتحرر منها يأتي عبر الحضور في اللحظة الآنية ومراقبة “العقل المفكر” دون التماهي معه.
الخاتمة: من الصراع إلى الرقص
في النهاية، يخلص آلان واتس إلى أن فكرة “الأنا” ليست عديمة الفائدة تمامًا؛ فهي ضرورية للتواصل الاجتماعي ما دمنا ندرك حقيقتها كأداة مجردة ولا نقع في فخ عبادتها. المشكلة تنشأ عندما نخلط بين الخريطة والواقع، بين الصورة والحقيقة.
الرسالة النهائية هي دعوة لتغيير المنظور: “الحياة ليست ساحة صراع بينك وبين نفسك، بل هي رقصة وعي بين ما تظنه أنت وما أنت حقًا”. التحرر لا يأتي من إضافة شيء جديد، بل من التوقف عن فعل شيء كنا نفعله طوال الوقت دون وعي: التمسك بالوهم والشد العضلي المصاحب له. إنها دعوة لرؤية الوهم كما هو، وعندها فقط، يمكن للرقصة الحقيقية أن تبدأ.
تنبيه: هذا المقال يلخص آراء خبراء ودراسات متاحة لأغراض تثقيفية فقط ولا يعتبر استشارة طبية.