هل يمكن أن يكون الزمن الذي نعيشه مجرد وهم نسبي؟ في حوار فكري عميق، يطرح الدكتور مصطفى محمود في إحدى حلقات برنامجه الشهير “العلم والإيمان” رؤية مذهلة حول طبيعة الزمن، مستندًا إلى آيات قرآنية ونظريات فيزيائية حديثة، ليفتح الباب أمام فهم جديد لأحد أكثر المفاهيم غموضًا في تاريخ البشرية. يتناول الحوار فكرة أن الزمن ليس ثابتًا مطلقًا، بل هو كيان متعدد الأبعاد يختلف باختلاف العوالم والمخلوقات، وهو ما قد يغير نظرتنا للحياة والموت والوجود نفسه.
الزمن الإلهي والزمن المخلوق: رؤية من القرآن
في بداية تحليله، يوضح الدكتور مصطفى محمود الفرق الجوهري بين علم الله المطلق والزمن الذي يخضع له الخلق. الله، بوصفه “المتعالي”، لا يخضع للزمان ولا يجري عليه طارئه. المستقبل، بالنسبة للبشر، هو غيب ينتظرونه، أما بالنسبة لله، فهو حدث قد وقع ودُوّن في علمه الأزلي.
ولتوضيح هذه الفكرة، يستشهد بآيات قرآنية تتحدث عن أحداث يوم القيامة باستخدام صيغة الفعل الماضي، وكأنها وقعت بالفعل. يقول الله تعالى: “وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا” (الكهف: 99)، و“وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ” (الحاقة: 16)، و“وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا” (الفجر: 22). استخدام الفعل الماضي هنا (نفخ، انشقت، جاء) يشير إلى أن هذه الأحداث من منظور العلم الإلهي هي حقائق واقعة، فالله يتكلم بعلمه الذي أحاط بكل شيء، مما يؤكد أنه فوق البعد الزمني الذي نعيشه.
تقاويم زمنية متعددة في الكون
ينتقل الحوار بعد ذلك إلى فكرة مدهشة أخرى يقدمها القرآن، وهي وجود تقاويم زمنية مختلفة للمخلوقات المختلفة. كل ما سوى الله خاضع للزمان، ولكن ليس بنفس المقياس.
-
زمن الملائكة العالين: يستشهد بالآية الكريمة: “تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ” (المعارج: 4). هنا، يوم واحد في رحلة عروج هذه الفئة من الملائكة والروح يعادل خمسين ألف سنة من حساباتنا الأرضية. هذا يشير إلى أنهم ينتمون إلى نظام حركي وزمني مختلف تمامًا.
-
زمن ملائكة التدبير: في سياق آخر، يقول القرآن: “يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ” (السجدة: 5). هذه الفئة من الملائكة، التي تدبر شؤون الكون، يومها يعادل ألف سنة أرضية، مما يؤكد مرة أخرى على نسبية الزمن وتعدده.
-
زمن ما بعد الموت: يشير الدكتور مصطفى محمود إلى أن الإنسان عند البعث سيشعر بأن حياته كلها، بما في ذلك آلاف السنين في القبر، لم تكن إلا “ساعة من نهار”. يقول تعالى: “كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ” (الأحقاف: 35)، ويقول أيضًا: “وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ” (الروم: 55). هذا الإحساس بأن الزمن انكمش إلى مجرد ساعة ينبع من انتقال الإنسان من تقويم زمني أرضي إلى تقويم زمني مختلف تمامًا في عالم الآخرة.
نظرية النسبية لأينشتاين: جسر بين العلم والإيمان
يرى الدكتور مصطفى محمود أن نظرية النسبية لألبرت أينشتاين قدمت إطارًا علميًا ساعد على تقريب هذه المفاهيم القرآنية إلى الأذهان. اكتشف أينشتاين أن الزمن ليس ثابتًا ومطلقًا كما كان يعتقد نيوتن، بل هو نسبي ويعتمد على سرعة المراقب ومجال الجاذبية الذي يوجد فيه.
أحد أهم استنتاجات النظرية النسبية الخاصة (نُشرت عام 1905) هو مفهوم “تمدد الزمن” (Time Dilation). وفقًا لهذا المبدأ، كلما تحرك جسم ما بسرعة أكبر اقترابًا من سرعة الضوء، يتباطأ الزمن بالنسبة له مقارنةً بمراقب ثابت. عند البحث عن أدلة علمية، نجد أن هذا التأثير تم إثباته تجريبيًا مرارًا وتكرارًا. في تجربة هافيلي-كيتنغ (Hafele–Keating experiment) التي أجريت عام 1971، وُضعت ساعات ذرية فائقة الدقة على متن طائرات تجارية تطير حول العالم، وعند مقارنتها بساعات مرجعية على الأرض، وُجد أنها أظهرت فرقًا زمنيًا ضئيلًا ولكنه قابل للقياس، متوافقًا تمامًا مع تنبؤات أينشتاين.
هذا الاكتشاف العلمي يجعل فكرة أن للملائكة (وهي مخلوقات نورانية ذات طبيعة حركية فائقة) تقويمًا زمنيًا مختلفًا أمرًا منطقيًا من منظور فيزيائي. فإذا كان نظام حركتهم مختلفًا جذريًا عن نظامنا، فمن الطبيعي أن يكون زمنهم مختلفًا أيضًا. وبهذا، لم تعد الآيات القرآنية مجرد مفاهيم غيبية، بل أصبحت تشير إلى حقائق كونية عميقة تتناغم مع أحدث ما توصل إليه العلم.
التجربة الذاتية للزمن: تذوق أبعاد مختلفة للحياة
لا يقتصر اختلاف الزمن على العوالم الكونية، بل يمكن للإنسان أن “يتذوق” أبعادًا مختلفة للزمن في حياته اليومية من خلال تجاربه وخبراته المتنوعة. يقسم الدكتور مصطفى محمود هذه التجارب إلى ثلاثة مستويات:
- زمن الشهوات: هو زمن اللحظة والنزوة، زمن متفلت وهارب يورث الحسرة. الحياة فيه مطاردة مستمرة للحظات لذة سريعة الزوال، وهو أشبه بحياة الحيوان التي تقتصر على الغرائز الآنية.
- زمن العقل والتأمل: هو زمن السكينة والطمأنينة. عندما ينغمس الإنسان في التفكير والتأمل، تمر عليه الساعات وكأنها لحظات. هذا هو زمن البشر العاديين الذين يستخدمون عقولهم للارتقاء فوق مستوى الغرائز.
- زمن الروح: هو أسمى أنواع الزمن، يعيشه أهل الخشوع والعبادة. بالخروج من هموم الدنيا وقلق الأمس واليوم، يعيش الإنسان في حالة من السمو والاتصال الروحي مع الله. في هذه الحالة، قد تبدو لحظة واحدة وكأنها عمر بأكمله. هذه التجربة، التي شبهها بحياة الملائكة، تتطلب تجردًا وزهدًا وتفرغًا للعبادة.
هذه النماذج الثلاثة تقدم مثالًا حيًا على أن الزمن ليس مجرد عداد خارجي، بل هو أيضًا تجربة داخلية تتشكل حسب حالتنا الوجودية والنفسية والروحية.
الزمن في الفلسفة والتقاليد الأخرى
إن لغز الزمن لم يكن حكرًا على الدين أو الفيزياء، بل كان أحد أعمق مسائل الفلسفة عبر العصور. فرّق الفلاسفة بين نوعين من الزمن:
- الزمن الموضوعي (Objective Time): وهو زمن الساعة الخارجي، الموحد للجميع، والذي تُقاس به حركة الأفلاك والأجسام.
- الزمن الذاتي أو الوجودي (Subjective Time): وهو الزمن الداخلي الذي نعيشه في وعينا. وخير مثال على ذلك هو الحلم، حيث يمكن أن يعيش الإنسان قصة تمتد لسنوات (ولادة، طفولة، زواج) في غضون ثوانٍ قليلة من الزمن الموضوعي.
هذه الفكرة تناولها فلاسفة كبار. القديس أوغسطين في القرن الرابع الميلادي تساءل قائلًا: “ما هو الزمن إذن؟ إذا لم يسألني أحد، فأنا أعرف. أما إذا أردت أن أشرحه لسائل، فلا أعرف”. كما قدم الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون مفهوم “الديمومة” (La Durée)، وهو الزمن الحقيقي المعاش في الوعي، المليء بالذكريات والتوقعات، مقابل “زمن الساعة” المجرد والمقسم إلى لحظات متجانسة.
وفي التقاليد الشرقية، نجد أصداء لهذه الأفكار. في الهندوسية، يتحدثون عن دورات زمنية كونية هائلة تُعرف بـ “يوغا” (Yuga) و“كالباس” (Kalpa)، حيث يمتد يوم واحد للإله براهما لمليارات السنين البشرية، مما يعكس فكرة وجود مقاييس زمنية مختلفة على المستوى الكوني. وفي البوذية، هناك تركيز كبير على الطبيعة الذاتية للزمن وأن إدراكنا له مرتبط بحالة وعينا اللحظية.
خاتمة: لغز لا ينتهي
في نهاية المطاف، يخلص الدكتور مصطفى محمود إلى أن الزمن سيظل لغزًا كبيرًا وأحد أعمق أسرار الدين والفلسفة. كل ما نعرفه عنه، سواء من خلال الوحي أو العلم أو التجربة الذاتية، ليس إلا “إشارات” ولمحات بسيطة من حقيقة أوسع وأعظم. نحن كالأطفال الذين يحاولون فهم زمن الأرض وساعاتها، بينما تمتلئ السماوات وعوالم الملكوت بأسرار وتقاويم زمنية تفوق إدراكنا. إنها دعوة مفتوحة للتفكر في عظمة الخالق وتعقيد الكون، والاعتراف بأن معرفتنا تظل محدودة أمام الأسرار الإلهية العظمى.
تنبيه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تعليمية وتثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية أو بديلاً عنها.