أثار ظهور لافتة رسمية تحمل اسم “جمهورية مصر” بدلاً من “جمهورية مصر العربية” خلال أحد الأنشطة الرئاسية مؤخراً، عاصفة من النقاشات على منصات التواصل الاجتماعي وفي الدوائر الثقافية والسياسية. هل هو مجرد خطأ بروتوكولي عابر، أم إشارة مدروسة نحو تحول أعمق في نظرة الدولة لذاتها؟ انقسم المعلقون بين فريقين رئيسيين: فريق يرى في حذف صفة “العربية” تصحيحاً تاريخياً ضرورياً يعيد لمصر هويتها الشاملة والأصيلة، وفريق آخر يعتبره تنصلاً من العروبة التي يراها مكوناً أساسياً لا ينفصل عن هوية مصر الحديثة. هذا الجدل، بعيداً عن كونه مجرد خلاف حول التسميات، يفتح الباب واسعاً أمام سؤال الهوية المعقد، وهو سؤال صحي وحيوي لأي أمة تسعى لفهم ذاتها في خضم التحولات الكبرى.
في مقطع فيديو حديث على يوتيوب، تناول أحد المحللين هذا الموضوع، مقدماً رؤية تحليلية تدعم تسمية “جمهورية مصر” باعتبارها الخيار الأكثر دقة وأمانة للتعبير عن الشخصية المصرية. يرى المتحدث أن النقاش حول هوية بلد ما ليس أمراً سلبياً، بل هو علامة على حيوية المجتمع والدولة. فالأمم التي لا تعيد طرح هويتها للنقاش هي أمم جامدة، حبيسة قوالب قد لا تعود صالحة لزمانها. وعندما تقر الدساتير والقوانين بتعدد مكونات الأمة، يصبح من الواجب تطبيق هذا الإقرار على أرض الواقع، وفي مقدمة ذلك الأسماء والرموز الرسمية التي يجب أن تكون جامعة لا مُفرّقة.
مصر أولاً: حضارة تسبق العروبة
الحجة الأولى التي سيقت لصالح “جمهورية مصر” تستند إلى عمق التاريخ. فالحضارة المصرية، التي تمتد جذورها لأكثر من سبعة آلاف عام، هي أسبق بكثير من ظهور “العرب” كمفهوم سياسي أو إثني على مسرح التاريخ العالمي. فمصر الفرعونية، ببنيانها الشاهق وعلومها وفنونها، كانت قائمة بذاتها قبل قرون طويلة من تشكل فكرة “العروبة” وقبل أن تتبلور اللغة العربية في صيغتها الحالية التي نعرفها اليوم. يؤكد علماء اللسانيات أن العربية الفصحى مرت بمراحل تطور طويلة، وأن شكلها الحالي لم يكن موجوداً في زمن الأهرامات.
من هذا المنطلق، فإن وصف مصر بـ”العربية” يُعتبر، حسب هذا الرأي، تقزيماً واختزالاً لتاريخها المديد في حقبة واحدة فقط، وهي الحقبة العربية الإسلامية، متجاهلاً آلاف السنين من الإرث الفرعوني والقبطي والروماني واليوناني الذي صاغ الشخصية المصرية. عندما بحثنا في هذا الادعاء، وجدنا أن العديد من المؤرخين يدعمون هذه الفكرة. على سبيل المثال، يؤكد التحليل التاريخي لتطور الهويات في مصر أن الهوية المصرية كانت دائماً مركبة ومعقدة. كما يشير عالم المصريات الشهير الدكتور زاهي حواس في nhiều من كتاباته إلى أن “الحمض النووي للمصريين اليوم يحمل الكثير من جينات أجدادهم الفراعنة”، مما يؤكد الاستمرارية الحضارية والثقافية.
“العربية”: صفة سياسية وليدة الخمسينيات
السبب الثاني الذي يطرحه الفيديو يتعلق بالسياق التاريخي لولادة تسمية “جمهورية مصر العربية”. هذه التسمية ليست قديمة قدم مصر، بل هي حديثة نسبياً، إذ تعود إلى فترة ما بعد ثورة الضباط الأحرار عام 1952. مع صعود نظام حكم ذي توجه عسكري، تبنى قادة الثورة، وعلى رأسهم محمد نجيب ثم جمال عبد الناصر، أيديولوجيا اشتراكية ارتبطت بشكل وثيق بفكرة القومية العربية التي كانت في أوجها آنذاك. كانت “العروبة” هي الإطار الأيديولوجي الذي sought من خلاله نظام عبد الناصر تحقيق الزعامة الإقليمية وتوحيد الصف العربي في مواجهة القوى الاستعمارية وإسرائيل.
في هذا السياق، تم تغيير اسم الدولة رسمياً من “المملكة المصرية” إلى “جمهورية مصر” عام 1953، ثم إلى “الجمهورية العربية المتحدة” بعد الوحدة مع سوريا عام 1958، وأخيراً استقر الاسم على “جمهورية مصر العربية” في عام 1971 في عهد الرئيس أنور السادات. هذا يعني أن الصفة “العربية” كانت جزءاً من مشروع سياسي محدد، ارتبط بالمد القومي اليساري في منتصف القرن العشرين. يجادل المتحدث بأنه مع تراجع هذا المشروع السياسي وزوال سياقاته الدولية والإقليمية، لم تعد الشعارات والتسميات المرتبطة به تحمل نفس المصداقية أو الضرورة.
عند البحث عن أدلة تدعم هذا التحليل، نجد أن المؤرخين السياسيين يتفقون على هذا التسلسل الزمني. يوضح تحليل منشور في “International Journal of Middle East Studies” كيف عمل نظام عبد الناصر بنشاط على “تعريب” مصر ثقافياً وسياسياً لخدمة مشروعه القومي. كما يرى مفكرون آخرون، مثل الكاتب المصري الشهير توفيق الحكيم في كتابه “عودة الوعي”، أن فترة المد القومي حملت في طياتها انجرافاً أيديولوجياً أبعد مصر عن بعض خصوصياتها.
فسيفساء مصر: ظلم التسمية الاختزالية
الحجة الثالثة، وهي ربما الأكثر أهمية من منظور اجتماعي، هي أن مصر ليست بلداً عربياً خالصاً من الناحية الإثنية أو الثقافية. فكلمة “عربي” تشير إلى أصول سكانية قادمة من شبه الجزيرة العربية، وهؤلاء يمثلون أحد مكونات الشعب المصري وليس الشعب المصري بأكمله. إن تجاهل المكونات الأخرى في التسمية الرسمية للدولة هو ظلم تاريخي وإجحاف بحق شرائح أصيلة من المجتمع.
-
الأقباط: الأقباط ليسوا مجرد طائفة دينية مسيحية، بل هم أحفاد مباشرون للمصريين القدماء الذين اعتنقوا المسيحية في القرون الأولى. كلمة “قبطي” (Copt) نفسها مشتقة من الكلمة اليونانية “Aegyptos” التي تعني “مصري”. اعتبار القبطي “عربياً” هو فرض لهوية لا تعبر عن جذوره التاريخية العميقة.
-
النوبيون: هم سكان جنوب مصر وشمال السودان، وهم شعب أفريقي له لغته الخاصة (اللغة النوبية) وثقافته المتميزة وتاريخه العريق الذي يمتد إلى حضارات مستقلة وممالك قوية. النوبيون ليسوا عرباً، وإدراجهم قسراً تحت مظلة “العروبة” يمحو هويتهم الأفريقية الأصيلة.
-
الأمازيغ: في واحة سيوة بالصحراء الغربية المصرية، يعيش مجتمع أمازيغي يقدر تعداده بالآلاف (تشير التقديرات إلى حوالي 25,000 إلى 30,000 شخص). يتحدث هؤلاء “السيوية”، وهي إحدى اللغات الأمازيغية، ويحافظون على تقاليدهم الخاصة التي تربطهم بالشعوب الأمازيغية الأخرى في شمال أفريقيا (ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب).
إن تسمية “جمهورية مصر العربية” تتجاهل كل هذه المكونات وتفرض هوية واحدة، مما يجعلها تسمية “غير ديمقراطية” حسب وصف المتحدث. ويضرب المتحدث مثالاً بالمغرب الذي غير دستوره ليعترف باللغة الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب العربية، ويعترف بتعدد مكونات هويته (الأفريقية، الأندلسية، اليهودية، المتوسطية)، مما يجعل تسمية “المغرب العربي” تسمية متجاوزة وغير معبرة عن الواقع. هذا الرأي يجد صدى لدى العديد من نشطاء حقوق الأقليات الذين يدعون إلى تسميات وطنية محايدة تكون مظلة للجميع. وقد أظهرت دراسة أنثروبولوجية حول الهوية في واحة سيوة كيف يكافح سكان الواحة للحفاظ على لغتهم وثقافتهم الفريدة في مواجهة الهيمنة الثقافية المحيطة.
العمق الأفريقي: حقيقة الجغرافيا التي لا يمكن تجاهلها
أخيراً، تأتي الحجة الجغرافية. مصر تقع في الركن الشمالي الشرقي من قارة أفريقيا، وهي دولة أفريقية بامتياز. نهر النيل، شريان حياة مصر، هو نهر أفريقي يربطها بدول الحوض. في المقابل، “العرب” كأصل جغراfi ينتمون إلى شبه الجزيرة العربية في قارة آسيا. هذا الانتماء الجغرافي له تجلياته العملية؛ فمصر عضو مؤسس في الاتحاد الأفريقي وتشارك في بطولة كأس الأمم الأفريقية لكرة القدم، بينما تشارك دول الخليج العربي في البطولات الآسيوية.
يرى المتحدث أن اختزال هوية مصر في “العروبة” يقتلعها من عمقها الأفريقي الاستراتيجي والثقافي. هذا الرأي ليس جديداً، فقد أكد عليه المفكر والجغراfi المصري العظيم جمال حمدان في موسوعته الخالدة “شخصية مصر”. رأى حمدان أن شخصية مصر “عبقرية المكان” نابعة من موقعها الفريد الذي يجمع بين أبعاد متعددة: أفريقية، متوسطية، وآسيوية (عبر سيناء)، لكن بعدها الأفريقي هو الأصل والأرض. كما دعا مفكرون مثل طه حسين في مراحل من حياته الفكرية إلى التأكيد على هوية مصر المتوسطية لارتباطها بحضارات اليونان وروما.
أصوات أخرى: العروبة كهوية ثقافية ولغوية
في المقابل، يرى المدافعون عن صفة “العربية” أن النقاش يبالغ في تبسيط مفهوم “العروبة”. بالنسبة لهم، العروبة اليوم ليست هوية عرقية أو إثنية ضيقة، بل هي هوية ثقافية ولغوية جامعة. فبعد الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، أصبحت اللغة العربية هي لغة الدين والثقافة والعلم والإدارة، وانصهرت فيها معظم المكونات السكانية. مصر اليوم، حسب رأيهم، هي قلب العالم العربي النابض ثقافياً وفنياً وإعلامياً، واللغة العربية هي التي توحد وجدان شعبها وتصله بمحيطه الإقليمي.
يشيرون إلى أن الدستور المصري نفسه ينص على أن “الشعب المصري جزء من الأمة العربية ويعمل على تحقيق وحدتها الشاملة”. ويرى مفكرون مثل محمد حسنين هيكل أن دور مصر القومي العربي ليس مجرد اختيار سياسي، بل هو قدر تاريخي وجغراfi. من هذا المنظور، فإن حذف “العربية” هو انسلاخ من هذا الدور وتجاهل لواقع ثقافي ولغوي يمتد لأكثر من 1400 عام.
خاتمة: نقاش نحو هوية جامعة
في نهاية المطاف، يعكس الجدل حول اسم “مصر” توتراً صحياً بين رؤيتين للهوية الوطنية: رؤية تؤكد على التفرد والعمق التاريخي والجغراfi لمصر ككيان مستقل ومتعدد الأبعاد، ورؤية أخرى تؤكد على الانتماء الثقافي واللغوي إلى فضاء عربي واسع كانت مصر ولا تزال أحد أهم أعمدته. قد لا يكون الحل في الاختيار الحاسم بين “مصر” و”مصر العربية”، بل في بناء وعي وطني جديد قادر على استيعاب كل هذه الأبعاد دون اختزال أو إقصاء. إن اختيار تسمية محايدة مثل “جمهorية مصر” قد يكون خطوة رمزية مهمة نحو الاعتراف بأن مصر أكبر من أي وصف منفرد، وأنها كيان فريد تتلاقى فيه أفريقيا والبحر المتوسط والعالم العربي في فسيفساء حضارية غنية لا مثيل لها.
تنويه: هذا المقال يلخص آراء الخبراء والدراسات المتاحة لأغراض تعليمية وتثقيفية فقط، ولا يعتبر استشارة طبية.