في رحلة الحياة المليئة بالتقلبات والتحديات، يبحث الإنسان دائمًا عن سند وطمأنينة، عن قوة خفية تحميه وتوجهه في خضم الأمواج المتلاطمة. في خضم هذا البحث، كانت لي وقفة وتجربة فريدة مع آية قرآنية عظيمة، تجربة لم تكن مجرد قراءة عابرة، بل كانت نبراسًا أضاء دربي وملاذًا آويت إليه في شدتي. إنها قوله تعالى في سورة يس: “وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ” (يس: 9).
لم تكن علاقتي بهذه الآية وليدة لحظة، بل هي نتاج رحلة من التأمل واليقين، بدأت بقصص السلف الصالح وبلغت ذروتها في تجارب شخصية عززت في نفسي الشعور بمعيتها وقوتها. في هذا المقال، أشارككم تجربتي مع هذا الحصن الإلهي، لا كواعظ أو مفسر، بل كإنسان وجد في هذه الكلمات الربانية ما لم يجده في كنوز الدنيا.
بداية القصة: نظرة في أعماق المعنى
قبل أن أغوص في تفاصيل تجربتي الشخصية، لا بد من وقفة مع المعنى العميق لهذه الآية الكريمة. يخبرنا المفسرون أن هذه الآية نزلت في سياق هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، حينما أحاط المشركون ببيته عازمين على قتله. فخرج عليهم النبي وهو يقرأ هذه الآية وينثر التراب على رؤوسهم، فلم يره أحد منهم، ومضى في طريقه بسلام.
هذه القصة التاريخية العظيمة تضعنا أمام أول وأوضح معاني الآية: الحماية والإخفاء عن أعين الأعداء. فالله سبحانه وتعالى، بقدرته التي لا تحدها حدود، قادر على أن يضع حاجزًا وسدًا منيعًا بينك وبين من يريد بك سوءًا، فيغشي أبصارهم عنك فلا يرونك.
ولكن، هل يقتصر معنى الآية على الحماية المادية فحسب؟ هنا بدأت رحلتي الحقيقية مع التأمل. أدركت أن “الأعداء” ليسوا دائمًا أشخاصًا من لحم ودم. قد يكون العدو هو الخوف الذي يشل تفكيرك، أو القلق الذي يسرق منك لذة النوم، أو الشك الذي يزلزل ثقتك بنفسك وبقدراتك. قد يكون العدو هو وساوس الشيطان التي تزين لك الباطل وتصرفك عن الحق.
“السد” الذي لمسته في حياتي: تجارب شخصية
أتذكر جيدًا تلك الفترة العصيبة التي مررت بها في عملي. كنت أواجه تحديات كبيرة وضغوطًا نفسية هائلة، وشعرت بأنني محاصر من كل جانب. كثرت المشاكل وبدا أن لا مخرج منها. في ليلة من الليالي، وأنا أقلب صفحات المصحف باحثًا عن بصيص أمل، وقعت عيناي على هذه الآية في سورة يس. قرأتها مرارًا وتكرارًا، وشعرت بأن كل كلمة فيها تخاطبني وتلامس واقعي.
في تلك اللحظة، قررت أن أجعل هذه الآية جزءًا من دعائي اليومي. كنت أرددها بيقين وتضرع، ليس فقط لدرء شرور الزملاء المتربصين، بل لأبني سدًا منيعًا بيني وبين اليأس والإحباط الذي بدأ يتسلل إلى قلبي.
والعجيب ما حدث بعد ذلك. لم تختف المشاكل فجأة كأنها لم تكن، ولكن الذي تغير هو أنا. شعرت بسكينة عجيبة تغمر نفسي، وبقوة داخلية تمكنني من رؤية الأمور من منظور مختلف. بدأت أجد حلولًا للمشاكل التي كانت تبدو مستعصية. وكأن الله قد وضع “سدًا” بيني وبين التأثير السلبي لتلك الضغوط، و”أغشى” عني رؤية العوائق كجبال لا يمكن تسلقها، بل كعقبات يمكن تجاوزها.
موقف آخر لا أنساه، كنت أسير في طريق مظلم في وقت متأخر من الليل، وشعرت بالخوف يتملكني من بعض الأشخاص الذين كانت نظراتهم مريبة. بشكل لا إرادي، وجدت لساني يردد: “وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون”. والله الذي لا إله إلا هو، لقد شعرت بأن حجابًا قد نُصب بيني وبينهم، ومشيت بينهم دون أن يلتفت إليّ أحد، وكأنني غير مرئي.
كيف تجعل هذه الآية حصنك المنيع؟
من خلال تجربتي، أود أن أشارككم بعض الدروس العملية للاستفادة من هذه الآية العظيمة:
- اليقين قبل كل شيء: سر الاستجابة يكمن في اليقين التام بأن الله هو الحافظ وأن كلماته هي الحق. اقرأ الآية بقلب موقن بقدرة الله على حمايتك.
- الدعاء بها في كل حين: لا تقتصر قراءتها على أوقات الخطر المادي فقط. ادعُ بها لتحمي نفسك من شرور نفسك، ومن وساوس الشيطان، ومن القلق والاكتئاب.
- اجعلها درعًا نفسيًا: عندما تشعر بالضغط النفسي والحصار من المشاكل، تذكر أن الله قادر على أن يضع سدًا بينك وبين هذا الشعور السلبي، وأن يغشي بصيرتك عن رؤية اليأس.
- الفهم العميق للمعنى: كلما تعمقت في معنى الآية، زاد تأثيرها في نفسك. تأمل في قصة نزولها وفي قدرة الله التي تجلت فيها.
خاتمة: ما وراء السدود
إن تجربتي مع آية “وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا” علمتني أن القرآن ليس مجرد كتاب يُقرأ، بل هو دستور حياة ومصدر قوة لا ينضب. علمتني أن اللجوء إلى الله بآياته هو أقوى سلاح في مواجهة صعاب الحياة، سواء كانت هذه الصعاب أعداءً ظاهرين أم همومًا باطنة.
إنها دعوة لكل من يقرأ هذه الكلمات، أن يفتح قلبه لهذه الآية وأن يجعلها جزءًا من حياته. ففيها الأمان لمن خاف، والسكينة لمن قلق، والحماية لمن استضعف. وفيها اليقين بأنك حين تكون في معية الله، فإنه سيجعل لك من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، وسينصب بينك وبين كل سوء سدًا منيعًا، فلا تراه ولا يراك.