نزار قباني

"عَلَى صَدْرِ الصَّهِيلِ أَنَامُ... عُيُونُكِ وَاحَةُ الظِّلِّ الَّتِي وُهِبَتْ إِلَى الدُّنْيَا بِكَامِلِهَا عُيُونَ المَاءِ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَى الأَرْحَامِ دُمُوعُ المِسْكِ وَالعَنْبَرِ."

"بِهَا سَكَنِي وَلِي بِهِمَا حَنِينٌ يُشْبِهُ الأَحْلَامَ، وَمِسْكُ بِدَايَتِي مَعَكِ إِذَا مَا اسْتَفْتَحَ القَلْبُ بِضِحْكَتِكِ، فَخَيْرُ بِدَايَةٍ فِينَا وَخَيْرُ خِتَامٍ."

"فَلَا عَجَبَ إِذَا ثَارَتْ أَحَاسِيسِي، لِأَنَّ الطَّلَّ مِنْ عَيْنَيْكِ زَخَّاتٌ هُنَا الرَّحْمَنُ يُرْسِلُهَا لِتُمْطِرَ دَاخِلَ الإِلْهَامِ."

"أَنَا الطِّفْلُ الَّذِي مَا بَيْنَ شَفَتَيْكِ، تُهَدْهِدُ أَحَاسِيسَكِ إِذَا نَطَقَتْ وَإِنْ بَاحَتْ بِأَيِّ كَلَامٍ."

"فَحُطِّي يَا ابْنَةَ الهَوَى حُطِّي رِحَالَكِ دَاخِلِي، حَتَّى أُحِلَّلَ فِي الهَوَى قَلْبِي مِنَ الإِحْرَامِ."

"فَيَا مَحْبُوبَتِي رَغْمًا عَنِ النَّاسِ وَعَنْ ذَاتِي، أَنَا المَجْبُولُ وَاللهِ عَلَى حُبِّكِ بِأَمْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ، يَا نَهْرَ الحَنِينِ الخَامِ."

"حَنِينُكِ مَا لَهُ شَبَهٌ، وَأُقْسِمُ قَطْرَةٌ مِنْهُ إِذَا مُزِجَتْ بِمَاءِ البَحْرِ لَا اسْتَعْصَمَ، وَمَنْ بِالحُبِّ يَسْتَعْصِمُ حَرَامٌ فِي هَوَاهُ يُلَامُ."

"تَرِنُّ كَرَنَّةِ الخُلْخَالِ ضِحْكَتُكِ، وَلَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ اليُتْمِ ضِحْكَتُكِ، يَمِينَ اللهِ لَنْ يَبْقَى عَلَى أَرْضِ الهَوَى أَيْتَامٌ."

"يَظُنُّ النَّاسُ أَنَّ الحُبَّ تَرْوِيَةٌ وَتَسْلِيَةٌ، وَكَلِمَاتٌ لَهَا وَقْعٌ وَمُوسِيقَى وَتَخْدِيرٌ يُصَاحِبُنَا مَعَ الأَنْغَامِ، مَعَاذَ اللهِ مِنْ جَهْلٍ."

"أَلَا تَدْرُونَ يَا سَادَةُ بِأَنَّ العِشْقَ تَرْتِيبٌ مِنَ الأَعْمَاقِ يَأْتِينَا لَهُ أَحْكَامٌ؟ أَلَا تَدْرُونَ يَا سَادَةُ بِأَنَّ الحُبَّ مَغْفِرَةٌ لِأَوْزَارٍ تُخَلِّفُهَا خَطَايَانَا، وَضَوْءُ الحُبِّ تَطْهِيرٌ مِنَ الآثَامِ."

"جَمِيعُ النَّاسِ لَوْ عَلِمُوا بِمَا فِي الحُبِّ مِنْ خَيْرٍ لَشَدُّوا رِحَالَهُمْ لِلْعِشْقِ أَفْوَاجًا حَجِيجًا قَلْبُهُمْ قَدْ هَامَ، لِأَنَّ الحُبَّ مُعْجِزَةٌ مِنَ اللهِ فَسُبْحَانَهُ لَهُ حِكَمٌ، بِهَذَا الحُبِّ يُصْلِحُنَا وَيُصْلِحُهُمْ فَيُصْلِحُ بِالأَنَامِ الأَنَامَ."

"وَلَوْ عَلِمُوا بِأَنَّ الحُبَّ لِلهِ مُنَاجَاةٌ، لَنَامُوا فَوْقَ أَرْصِفَةِ الهَوَى عِشْقًا، بَاعُوا عُمْرَهُمْ فِي الحُبِّ لِلهِ وَخَرُّوا سُجَّدًا وَقِيَامًا."

"لَهَا فِي العِشْقِ إِنْ نَظَرَتْ حَنِينٌ فِي تَجَلِّيهِ، يُخَلِّفُ بَعْدَهُ وَجَعًا بِأَعْمَاقِي وَيَضْرِبُنِي بِسِرْبِ سِهَامٍ."

"أَنَا أَيْقَنْتُ أَنَّ السَّهْمَ مُتَّجِهٌ إِلَى رُوحِي، سَأَصْرُخُ فِي الفَضَا وَجْدًا: 'يَا نَارَ الهَوَى كُونِي عَلَى قَلْبِي هُنَا بَرْدًا وَأَلْفَ سَلَامٍ'."

"وَيَا وَيْلِي إِذَا صَهَلَ بِأَوْرِدَتِي كَمُهْرٍ يَقْفِزُ الأَسْوَارَ مُنْفَعِلًا بِغَيْرِ لِجَامٍ، وَقَلْبِي فِي الهَوَى يَعْدُو كَطِفْلٍ فِي الهَوَى ثَمِلٍ، وَيُخْفِي دَائِمًا وَجْهًا يُدَارِي طَعْنَةَ الشَّوْقِ وَرَاءَ لِثَامٍ."

"يُنَادِيهَا، يُنَاجِيهَا، يُطَبْطِبُ فَوْقَ خَدِّ القَلْبِ، يَهْمِسُ لِي: 'أَنَا ذَاكَ الهَوَى المَوْلُودُ وَاللهِ هُنَا مَعَهَا بِنَفْسِ العَامِ'. لِكَيْ يَسْتَعْطِفَ المُتَجَبِّرَ العَاتِي بِأَضْلُعِي، فَيُصْدِرَ هَا هُنَا صُلْحًا وَيَأْمُرَ بَعْدَهُ بِخِصَامٍ."

"لِعَطْفِ مُهْرَةِ العِشْقِ عَلَى قَلْبِي وَتَسْمَحَ لِي عَلَى صَدْرِ الصَّهِيلِ أَنَامُ، تَدُقُّ بِقَلْبِي المُشْتَاقِ حَافِرَهَا وَتَغْرِسُهُ كَنَصْلِ السَّيْفِ فِي عُمْقِي، فَيَا لَجَرَاءَةِ الإِقْدَامِ."

"وَتَبْتَسِمُ وَخَلْفَ الشَّالِ عَيْنَاهَا إِذَا لَاحَتْ تُحَلِّقُ فِي سَمَا رُوحِي كَسِرْبِ حَمَامٍ. وَأَصْرُخُ دَائِمًا فِيهَا مِنَ الوَجَعِ الَّذِي فِينَا: 'يَا مَجْنُونَةُ قُولِي، أَفِعْلُكِ فِي الهَوَى هَذَا مِنَ الإِسْلَامِ؟'."

"فَيَزْدَادُ تَدَلُّلُهَا وَمَا كَانَ بِحُسْبَانِي، وَلَا حَتَّى بِإِمْكَانِي أُقَاوِمُ ضَرْبَةً بِالرُّمْحِ أَرْدَتْنِي قَتِيلًا عِنْدَمَا جَاءَتْ، وَكَانَتْ مُنْتَهَى الأَحْكَامِ."

"وَأُقْسِمُ أَنَّنِي لَوْ مُتُّ فِي يَوْمٍ وَضَمَّتْنِي، وَلَوْ بِالقَبْرِ وَضَعُونِي، سَأَجْرِي خَلْفَهَا سَعْيًا عَلَى الأَقْدَامِ."

"لِذَا قَدْ جَاءَ تَصْرِيحِي أَمَامَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لِأُخْبِرَ أَنَّ غِيَابَكِ مُنْتَهَى الإِجْرَامِ."